شاءت الأقدار أن تضع المخرج والفنان الشاب محمد كريم فى طريق السينما المصرية، ليلعب دورا تاريخيا مهما، ويبدو أن هذا الدور كتب له الخلود، بغض النظر عن التقدم الذى أحرزه مخرجون آخرون فى وجوده، ورغم المغالطات التى كان يسوّقها عن نفسه وعن إنجازاته فى أحاديثه الكثيرة، والتى أجملها كلها فى المذكرات التى صدرت عن أكاديمية الفنون، فى عهد الناقد والمخرج والمؤرخ السينمائى الكبير الدكتور مدكور ثابت، فإن اسم محمد كريم ظل -دائما- مقرونا بالريادة والسبق فى تاريخ السينما المصرية. واقرؤوا هذا الوصف التفصيلى الذى منحه محرر مجلة الكواكب الصادرة فى 24 فبراير 1953، ويقول فيه: إن محمد كريم رجل هادئ لطيف خارج بلاتوه التصوير، فإذا أقبل على العمل أرهف جميع إحساساته، وأصبح مثل البارود القابل للاشتعال -بل الانفجار- عند أول شرارة.. والشرارة عادة تتمثل فى الأخطاء التى يرتكبها الممثلون عن قصد أو غير قصد أثناء التصوير أو إجراءات البروفات.. والذين يعرفون محمد كريم معرفة شخصية يعجبون بطابع الجد والصرامة الذى يطبع تصرفاته، وبالدقة البالغة التى يأخذ بها الأمور.. وهو فى الاستديو يستعمل هذا الجد وهذه الدقة استعمالا قاسيا، وقد يضطره ذلك أحيانا إلى الثورة، وربما إلى ضرب أجعص ممثلة تتهاون فى تأدية عملها ! ولم تكن -فى هذا السياق- صورة محمد كريم نابعة من كتابات وتقدير النقاد والمحررين له، بل هو نفسه كان يصنع هذه الصورة فى حواراته وكتاباته، فهذا حوار يتصدره عنوان مثير نشرته مجلة الكواكب كذلك: المخرج محمد كريم يقول: إننى فقير.. إلا من الكرامة ، وبالطبع يجد المحرر نفسه أمام هذه الأسطورة فيكتب فى مقدمة حواره: إنه أول مخرج فى مصر.. كما أنه أفقر مخرجيها . وفى هذا الحوار يقول كريم إنه ويوسف وهبى أصدق صديقين، وجمعتهما هواية واحدة فى طفولتهما هى هواية السينما التى لم تكن معروفة، إلا فى أوساط معينة، وإنهما -يوسف وكريم- يشتركان فى تأجير بعض الأفلام القصيرة، ويكشف كريم فى هذا الحوار عن اشتراكه فى التمثيل منذ عام 1917، وعمل روايتين هما شرف البدوى و الأزهار المميتة ، وانتاب كريم -كما يقول- شعور بأن الدنيا قد أقبلت بالمجد عليه، ولكنها كانت فرحة لم تتم، لسبب وحيد وهو أن الشركة التى أنتجت الفيلمين قد أفلست وأغلقت أبوابها قبل بدء العرض. هذا ما يقوله محمد كريم عن نفسه، بل يكتب عددا من المقالات فى صحف ومجلات ذلك الزمان، بأنه قبل عودته من دراسته فى ألمانيا، كان فن السينما شبه مجهول بشكل كبير فى مصر، ولكن معرفة هذا الفن جاءت على يديه، وهذه مسألة لا بد أن يراجعها النقاد والمؤرخون بشكل دقيق. وعلى ذكر مسألة الدقة هذه، والتى ذكرها محرر الكواكب فى صدر حديثه، واصفا بها كريم، نعود إلى مذكرات المخرج الكبير، والتى ذكر فيها أنه التقى بالفنان الشاب محمد عبد الوهاب الذى زاره فى منزله، وعندما دخل عبد الوهاب منزل كريم، بدا عليه التوتر والقلق، وصافح محمد كريم وزوجته وهو يضع يده فى منديل، وكان هذا مسار استغراب كريم وزوجته، وعندما قالا له: تشرب شايا أو قهوة ، رفض عبد الوهاب واعتذر، ولكنه طلب بعد ذلك كونياك ، فهلل كريم لهذا الطلب، وقال له: طب مش بتقول يا سيدى ، وعندما أتت زوجته بالكونياك، فوجئت بأنه لم يشربه، ولكنه كان يريده ليغسل به يديه، مما دفع زوجة كريم إلى أن تقول لزوجها إن هذا الشاب الفنان مجنون، ولا يصلح العمل معه على الإطلاق، ومما أكّد هذا الاعتقاد عندما تحدثا -عبد الوهاب وكريم- عن برنامج التعامل معا، وأفصح عبد الوهاب عن أنه يريد من كريم أن يخرج فيلما عن قصة حياته الفنية، هنا اعتذر كريم عن هذا الطلب تماما، حتى ظهرت حكاية فيلم الوردة البيضاء . وهنا تبرز حكاية الدقة المزعومة، والتى وصف بها المحرر محمد كريم، وأقول المزعومة لأن محمد كريم عندما أخرج فيلم الوردة البيضاء عام 1932، والذى كتب له أمير الشعراء أحمد شوقى أغنية النيل نجاشى ، وكتب له الشاعر أحمد رامى أغنية يا وردة الحب الصافى ، وكانت الأغنية الثالثة وهى جفنه علم الغزل للشاعر اللبنانى بشارة الخورى، وقد مثل فى هذا الفيلم محمد عبد الوهاب ومحمد عبد القدوس وسميرة خلوصى وآخرون، واستمر عرض الفيلم ستة أسابيع بنجاح فائق، واعترضت آنذاك مشيخة الأزهر على مشهد يظهر فيه عبد الوهاب وهو يقبل سميرة خلوصى، وهو يرتدى الطربوش، ليس اعتراضا على القبلة، ولكن اعتراضا على وجود الطربوش فى مشهد القبلة، وكان الطربوش آنذاك رمزا مصريا كبيرا. زعم محمد كريم أن القصة والسيناريو من تأليفه مع آخرين، وفى عرض الفيلم الأول احتج صاحب القصة الأساسى محمد متولى على هذا السطو العلنى، وأنكر محمد كريم تماما هذا الاتهام، ولكن بعد ثبوت الأدلة، تم إدراج اسم محمد متولى فى تتر الفيلم، على اعتبار أن فكرة الفيلم مأخوذة عن روايته المنشورة الوردة البيضاء ، قبل إخراج الفيلم، وهى تحكى حياة الفنان محمد عبد الوهاب وكفاحه، ويكتب متولى فى مستهل الرواية من واقع نسخة نادرة فى حوزتنا: سأصغى إلى كل ما يقال، لأنى أحب لو أستطيع أن أكتب القصة المصرية الناضجة ، ويهديها إلى: صديقى الموسيقى العظيم محمد عبد الوهاب.. لذكرى فترة من حياتى ، ومن الجميل أن تجد هذه الرواية طريقها للنشر، لأنها ذات أهمية بالغة فى تاريخ الرواية المصرية، بعيدا عن كونها البذرة الأولى للفيلم. المدهش أن محمد كريم ظل متمسكا بأن الفيلم ليس له أدنى علاقة باسم محمد متولى على الإطلاق كما جاء فى مذكراته!