ما هويتك؟ أهى الديانة أم الوطن أم القومية؟ كان هذا أول سؤال لأستاذنا فى مادة «تاريخ الفكر السياسى فى الشرق الأوسط» لنا ونحن طلبة فى الجامعة فى بداية التسعينيات. الحقيقة أن هذا السؤال لم يكف عن مراودتى، وخلال سنوات طويلة تنقلت بين الفرضيات الثلاث، وكان التنقل دائما ناتجا عن ردود أفعال عاطفية مرتبطة بأحداث تحيط بنا. فعندما حدثت مذابح ضد المسلمين فى البوسنة، وبالأخص سربرينيتشا سنة 1995، تأججت حمية الارتباط بالدين، ثم عندما قامت الانتفاضة الفلسطينية الثانية ومن بعدها حرب العراق فى بداية الألفينيات رجعت إلىّ وإلى آخرين جذوة القومية العربية، وترددت فى الشوارع وطنى الأكبر وغيرها، ومع الثورات فى بداية العقد الثانى من الألفينيات تغلبت المشاعر الوطنية، وعندما خبت جذوة كل هذه الأحداث، أو بمعنى أصح اختلطت كلها فى هذا المهرجان الذى نعيشه كلنا اليوم، يبقى السؤال أقوى من أى وقت مضى عالقا فى الفضاء ينتظر إجابة قاطعة. مفهوم مدنية الدولة لدى الأنظمة الحاكمة فى العالم كله سطحى وكلام لا يتعدى الحناجر للاستهلاك المحلى، وحرية التعبير بدعة جديدة يستغلونها بعد أن استغلوا كلمة ديمقراطية بشكل خاطئ لسنوات طوال نتج عنها آلاف مؤلفة من القتلى. توسط قاتل الأطفال الرضع فى فلسطين مسيرة فى باريس تنادى بحرية التعبير، ولم يفت قاتل أطفال سوريا بالبراميل الحارقة أن يرسل برقية عزاء إلى نظيره الفرنسى فى مقتل صحفيى شارلى إبدو ، وفى نفس إطار مدنية الدول ونبذها للعنف، لم يفت نتنياهو قبل مغادرته باريس أن يطالب اليهود الفرنسيين بالهجرة إلى إسرائيل، فما كان من رئيس الوزراء الفرنسى إمعانا فى المزايدة إلا أن أكد فى اليوم التالى أن كل الفرنسيين يهود. تقدم الصفوف سفير المملكة السعودية أيضا يطالب بحرية التعبير، ولكن للفرنسيين فقط، وليثبت السفير أن كلامه للحضور فقط، حُكم على مدون سعودى اسمه رائف بدوى بألف جلدة، لأنه أساء للدين الإسلامى، فكافأتهم جميعا شارلى إبدو بنشر عددها الأخير على غلافه رسم جديد للرسول عليه الصلاة والسلام، وتم تقديم الممثل الكوميدى الفرنسى من أصل كاميرونى ديودونى للمحاكمة بتهمة التحريض على الإرهاب، لأنه كتب على صفحته على فيسبوك أحس أنّى كوليبالى ، وليس أنا شارلى كما كتبت الأغلبية. معروف أن كوليبالى هو الإرهابى الذى أعدم أربع رهائن فى محل للطعام الحلال اليهودى، وبغض النظر عن مقصد ديودونى واختلافنا معه، إلا أنه يواجه عقوبة قد تصل إلى سبعة أعوام من السجن، لأنه كتب على صفحته كلاما مخالفا للاتجاه والشعور العام. وإن كان كلام ديودونى من الممكن أن يحرض على الإرهاب، ومع تفهمنا لضرورة حرية الرأى حتى وإن لم نتفق مع هذا الرأى، إلا أن إعادة نشر الرسوم تسببت أيضا فى كوارث بدأت تظهر بالفعل فى بلاد مثل النيجر والسنغال، حيث انتهت مظاهرات احتجاجية على إعادة نشر الرسوم، بحرق كنائس وقتل مدنيين. يبدو أن أحدا لم يحاول أن يفهم الآخر ولن يحاولوا. كما انفجرت المظاهرات الغاضبة فى العالم الإسلامى ضد تعنت شارلى ، وانفجرت الأعمال العدائية تستهدف المسلمين فى ألمانيا وفرنسا. أما فى مصر فإن الأنبا بولا أعلن قبلها أنه رأى السيد المسيح عليه السلام خلال زيارة الرئيس للكاتدرائية خلال احتفالات 7 يناير، تماما كما كان أنصار مرسى يرون الملاك جبريل خلال اعتصامهم فى رابعة العدوية... لا فارق هنا فى استغلال العقائد لتثبيت وجهة نظر سياسية وبيع البسطاء أوهاما هم فى غنى عنها لأنها لا تسمن من جوع. العالم كله ينتظر مارتن لوثر جديدا أو كذا مارتن لوثر لإصلاح فهم الأديان وإعادة تعريف علاقة هذه الأديان بالدول، لكن عصر الإصلاحيين الدينيين انتهى، كما انتهى عصر الفلسفة وتبعه عصر التحليل النفسى ومن بعده المدرسة الإيجابية وستنتهى أيضا قريبا. محاولة إقحام وجهة نظر وتغليبها على أخرى (فى عصر تتسارع فيه الأحداث والأخبار) تؤدى إلى إذابة هذا الخط الرفيع الذى يفصل الناس عن انتمائهم العرقى/الدينى/الوطنى. بمعنى آخر النفاق وازدواج المعايير هما العدو الأول لمدنية الدولة وللانتماء الدينى الروحانى الخالص. حان الوقت أن يُفصل بين العواطف وتُعرف الأشياء بأسمائها، والكف عن المغالاة... المغالاة فى الوطنية فاشية، والمغالاة فى الدين تعصب، وكلاهما أدوات لإرهاب الإنسانية، وإن اختلفت السبل.