ليل مظلم، سماء قاتمة وملبدة بالغيوم، أمطار تنهمر بدون توقف، شوارع خالية من المارة، أصوات نباح كلاب فى خلفية المشهد البعيدة، شبابيك مغلقة تنبعث من خلف الشيش بتاعها إضاءات خافتة وباهتة، أرضية "مزليقة" في منطقة عشوائية غير مسفلتة من تلك المناطق الممتلئة بحوارى متداخلة ومتقاطعة إذا أمطرت السماء فيها لمدة ربع ساعة فقط تحولت إلى بركة طين كبيرة، وبنى آدم عنده 12 سنة ينظر من خلف زجاج شباك غرفة صديقه ثم فى ساعة الحائط ثم يتخذ قراره.. "أنا حامشى.. سلام". ينصحه صديقه.. "يا بنى استنى لما تبطل مطرة". فينظر له نظرة ثاقبة، يلقى بعدها بتساؤله الحاسم والحاد والقاطع.. "ولو مابطلتش"! يعقبه باتجاهه ناحية باب الأوضة الذى يفتحه متجهاً إلى باب الشقة، تلك كانت مفردات الموقف فى تلك الليلة. قد لا يكون من المنطق الخروج إلى الشارع فى جو مثل هذا، ولكن الانتظار أيضاً ليس من المنطق فى شىء. فالأمطار قد تتوقف وقد لا تتوقف، وكل ما سيكسبه المرء من جراء انتظار توقف الأمطار هو زيادة كتلة العجين الطينية التى سوف يكون عليه أن يعبر من خلالها حتى يخرج للشارع الرئيسى المتسفلت. لهذا، وطالما كده كده حامشى، إذن فلأمشى الآن، قبل أن تخرب الشوارع أكثر. وقفت أمام باب العمارة لأرى أى الطرق أخف وطأة على مستوى الطين والزلق لأسلكه، أمامى ثلاث طرق؛ أعرف واحداً منهم فقط، هو الذى أتيت منه، وهو تقريباً أطولهم. لهذا اتخذت قرارى الحاسم بضرورة تجربة أحد الطريقين الآخرين على سبيل "التخريمة" و"اختصار الطريق"، إلا أني اكتشفت أنه لا يختلف عن الطريق الذى أعرفه، الحوارى المتقاطعة نفسها، والطين نفسه، وصوت نباح الكلاب القادم من بعيد نفسه، الاختلاف الوحيد أنى لم أصل فى الطريق الجديد إلى أى نهاية. قررت الرجوع مرة أخرى للطريق الذى أعرفه، إنحنيت مع الحوارى المتقاطعة فى طريق الرجوع، لكنى لم أصل إلى منزل صديقى، وعندما بدأت ألحظ أنى أعبر من الحوارى نفسها أكثر من مرة، وعندما اكتشفت إنى بالف وأدور حوالين نفسى، أيقنت فى النهاية أنى قد تُهت. مع الوقت بدأت قدماى تعتادا السير فى طبقة الطين الكثيفة، وبدأ جسمى يعتد الأمطار المنهمرة فوق دماغه، ولم يكن هناك أحد لأسأله، لهذا.. لم يكن أمامى سوى مواصلة السير حتى أخرج للطريق الأسفلت. واصلت السير حتى وجدت نفسى فجأة أمام مساحة شاسعة من الأرض الخلا الموحشة، الآن باتت الرؤية أوضح، الآن أستطيع أن أرى أضواء السيارات من بعيد على الطريق الأسفلت، نظرت إلى الأرض من أمامى، كانت طبقة الطين والزَلَق أضعافاً مضاعفة وبدون أى جوانب للطريق أستطيع أن أعبر من عليها، نظرت إلى الوراء، إلى الشارع الذى خرجت منه، وتساءلت بينى وبين نفسى.. هل أعود وأحاول مرة أخرى مع احتمال التوهان مرة أخرى؟ أم اخترق كل ذلك الطين وكل تلك الأرض الخلا الموحشة وأصل إلى الطريق الأسفلت الذى أراه أمامى بالفعل؟ بعد حوالى دقيقة من التفكير كنت قد اتخذت قرارى، وكنت قد بدأت أغوص بقدمى فى طبقة الطين الكثيفة، تحت الأمطار الغزيرة، عبر الأرض الخلا الموحشة، متجهاً نحو أضواء السيارات التى تمرق كأشباح خاطفة على الطريق الأسفلت السريع والبعيد.