بعد مشاهدة ذلك العرض الإجبارى، الذى بدأنا نعتاده من ألعاب المصارعة الحرة، وقذف الطوب، وقطع الرخام المشطوف بين مؤيدى الرئيس المخلوع مبارك وقوات الأمن والبلطجية من جهة وبين مؤيدى الثورة من جهة أخرى.. بات مفهوما أكثر ما كان يقصده العم جبران خليل جبران من وراء كلماته تلك.. «قد يكون للضفادع نقيق أشد من خوار الثيران.. إلا أنها لا تقوى على أن تجر المحراث فى الحقل، ولا أن تدور بعجلة معصرة النبيذ، كما أنك لا تستطيع أن تصنع من جلود الضفادع أحذية»! ذلك هو الصراع الحقيقى الآن.. بين ثيران قوية لا يتناسب صوتها المنخفض مع حجم قوتها الحقيقية، ولكنها هى القادرة على بذل المجهود الحقيقى، من أجل بناء البلد من جديد على نضافة.. وبين ضفادع لا تحلم بأكثر من ورقة شجر طافية على سطح مستنقع ماء ضحل وراكد وقذر تجلس عليها لتمارس نقيقها العالى غير المفيد عن طريق نفخ لغدها غير القادر على البناء أو الجر أو حتى مجرد صناعة حذاء منه.. الصراع الآن هو فى الأساس صراع بين صوت منخفض، لا يتناسب مع الطاقة الحقيقية الضخمة التى يمتلكها أصحابه وبين صوت عال لا يتناسب مع طاقة أصحابه المنخفضة أو المنعدمة.. صراع بين خوار منخفض لثيران قوية وبين نقيق عال لضفادع ضعيفة.. صراع بين سهول ومروج خضراء وشاسعة تحتاجها الثيران لترعى فيها وبين مستنقعات طينية وضحلة وقذرة تحتاجها الضفادع لتعيش فيها.. صراع بين كائنات قوية ومكتملة العضلات، ولكن صوتها غير مسموع وبين كائنات لزجة ومقرفة وبتلظ، ولكنها مسموعة الصوت.. والكوميدى أن الأسد مالك الغابة وحاكمها وصاحب الكلمة العليا فيها ورئيس جميع حيواناتها، عندما يقرر أن يأكل.. لا يبحث عن الضفادع ليصطادها.. وإنما يبحث عن الثيران! المشكلة الحقيقية فى تلك الألعاب الأوليمبلطجية، التى يتم نصبها كل جلسة فى الساحة أمام مقر المحاكمة أن مجرد ذكر جمل إخبارية، لتوصيفها من نوعية.. «اشتباكات بين مؤيدى ومعارضى الرئيس السابق».. لا يعنى بمنتهى البساطة سوى أنه ليست هناك ثورة من الأساس.. فكيف نكون قد عارضناه ثم خلعناه والآن نحاكمه.. ثم نتعامل مع معارضيه ومؤيديه بعد ذلك ككفتى ميزان متساويتين؟!.. وما المعنى المتبقى من تنحية مبارك عن الحكم من قبل الشعب، وفى ظل حماية الجيش، إذا كنا لا نزال نتعامل مع مؤيديه ومعارضيه بنفس المنطق المتساوى؟!.. وما المعنى أساسا (مش المعنى المتبقى بقى) من وراء انضمام قوات الأمن إلى صفوف مؤيديه فى حربهم الشعواء ضد معارضيه (اللى همه خلعوه)؟!.. وهل يصح أن تنتصر الثورة وينخلع مبارك، ثم يظل معارضوه الذين خلعوه لا يزالون كما هم.. اسمهم «معارضيه»؟!.. ألا يندرج هذا تحت بند الهرتلة وخلط الأوراق وتسمية الأشياء بغير مسمياتها؟!.. كيف تنقل أتوبيسات الحزب الوطنى المنحل حمولات المؤيدين بطوبهم ورخامهم ورخامتهم وهمجيتهم إلى مقر المحاكمة تحت سمع وبصر الجميع، وكأن شيئا لم يكن، وبراءة الأطفال فى أعينهم؟!.. وما أعداد الأتوبيسات التى يتم تجهيزها من الآن لأيام الانتخابات لنقل نفس هؤلاء المؤيدين بنفس الورقة أم مية جنيه وبنفس نص الفرخة منتهية الصلاحية إلى لجان التصويت؟!.. هل الحكومة ومن فوقها المجلس العسكرى هارشين ما يحدث.. أم أن الشعب فقط هو الموكلة إليه عملية الهرش فى ذلك البلد؟!.. وما الفارق بين موقعة الجمل التى هى من ضمن الأسباب التى يحاكم من أجلها الآن مبارك وبين موقعة العباسية أو موقعة الأكاديمية.. أليست كلها مواقع؟!.. أليست كلها اعتداءات من بلطجية النظام السابق على الذين من المفترض أنهم قد قاموا بثورة من المفترض أنها قد نجحت؟! فيه حاجة غلط.. لا أعلم ما هى بالظبط.. إلا أنه من المؤكد أنه فيه حاجة غلط.. حاجة غلط أوى، لدرجة أننا غير قادرين على مصارحة أنفسنا بها.. حاجة غلط أوى، لدرجة أننا كلما قررنا أن نصارح أنفسنا بها ينحبس صوتنا ليطلع من حناجرنا فى النهاية على هيئة «خوار» مكتوم وغير مسموع.. ويسهم فى جعله غير مسموع أكثر كل تلك الأصوات الطالعة من حناجر أخرى على هيئة «نقيق» عال على الفاضى، ولكنه مسموع.. مسموع ومسنود أيضا!