الضرب المبرح دائمًا ومن دون انقطاع، الحرمان من النوم تماما لمدد وصلت أحيانا إلى 180 ساعة (نحو ثمانية أيام متصلة)، الحبس الانفرادى أسابيع وشهورا فى زنازين مسمطة ومعزولة، وغارقة فى ظلام دامس كل ساعات اليوم، تجويع المعتقل وتعطيشه أياما طويلة ثم تغذيته وحقنه بالسوائل قسرًا من فتحة الشرج، التعرية التامة وتعريض السجين للبرودة الشديدة لساعات وأيام (وقد تصل إلى أسابيع)، وحصاره بضجيج شديد وضوضاء مستمرة، استخدام تقنية الإيهام بالغرق أو وضعه فى ماء مثلج، كما أن معتقلين كثيرين حُشروا فى زنازين خرسانية ضيقة جدا تشبه التابوت، وأقنعهم الحراس بأنهم سيبقون هكذا حتى الموت. إضافة إلى ما تقدم فقد جرى استخدام تقنية الخنق ومنع السجين من التنفس لمدة طويلة وعدم تركه إلا عندما يصل إلى حافة الموت.. وقد تعرض المساجين جميعا لعمليات إذلال مستمرة وممنهجة، وعبر أساليب وأشكال مختلفة مثل إجبارهم على قضاء حاجتهم فى حفاضات أو دِلاء (جرادل)، واستعملت أيضًا وبكثافة وسيلة الحبس فى زنازين قذرة مليئة بالحشرات مع تكبيل المعتقل وإجباره على البقاء ساعات (قد تصل إلى أيام) فى أوضاع قاسية ومجهدة، أشهرها إجبار السجين على الجلوس راكعا مع وضع عصا بين الساقين والوركين. وأخيرا وليس آخرا تهديد المعتقل بالانتقام من أهله وذويه وإيذائهم جنسيا واغتصاب الأم أو الأخت أو الزوجة، بل والأطفال أيضا!! ما فات كله هو بعض نماذج من الأساليب الهمجية المتفوقة فى القسوة والوحشية التى تضمنها تقرير ضخم ومروّع أذاع الكونجرس الأمريكى ملخصه الأسبوع الماضى، وتضمن رصدا وتسجيلا لعمليات تعذيب وإساءة واسعة النطاق استعملتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ضد مئات المعتقلين الذين اختطفتهم ووضعتهم فى سجن خاص أقامته بعيدا عن أى قانون أو أعراف أو مبادئ إنسانية، فوق جزيرة جوانتانامو الكوبية، متذرعة بجريمة تفجير برجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك يوم 11 سبتمبر 2001. غير أن ما استوقفنى وأثار اهتمامى فى سيل الأخبار الهائل الذى تدفق عبر وسائل الإعلام فى أربعة أركان الأرض بعد صدور التقرير المذكور، لم يكن تلك الأساليب الفظيعة المشينة (للأسف تعودنا على أخبارها)، كما لم أهتم ولم أحفل كثيرًا بالمعانى الواضحة التى تشى بها هذه الفضيحة الأمريكية الجديدة، ومنها حجم ومستوى النفاق والكذب الذى تسبح فيه نخبة ومؤسسات الحكم فى واشنطن التى عينت نفسها من دون أى مناسبة حارسًا عالميًّا على حقوق الإنسان ومنحت نفسها حق إلقاء المحاضرات عن أهمية احترامها.. لكن ما أثار اهتمامى فى كل هذا الفيض من الأخبار، ذلك الجزء الصغير مما أعلنته السيناتور (النائبة) ديان فنستين رئيس لجنة الأمن والاستخبارات فى مجلس الشيوخ الأمريكى بوصفها التى قادت لمدة 6 سنوات فريق البحث والتحقيق فى وقائع الفضيحة، وسجلت تقريرًا مروعًا، وثق جرائم وارتكابات منحطة يشيب من هولها الوِلدان، وما أقصده هو حديث فنستين عن أن ال سى آى إيه استعانت فى تنفيذ عمليات تعذيب المعتقلين فى جوانتانامو ب أطباء نفسيين خارجيين لتطوير وضمان كفاءة الأساليب المستخدمة لإجبار المعتقلين على الاعتراف!! ومن جانبها فإن صحيفة إندبندنت البريطانية قالت فى تقرير نشرته حول هذا الموضوع قبل أيام، إن المخابرات الأمريكية دفعت عشرات الملايين من الدولارات لأطباء ساعدوا زبانيتها وجلاديها فى جوانتانامو وقدموا لهم المشورة الفنية حول الأساليب الأكثر كفاءة وفاعلية لتطويع وكسر إرادة المعتقلين البؤساء، وإلحاق الأذى بتماسكهم العصبى والنفسى!! عزيزى القارئ.. هل تسأل مذعورًا عن مستنقع الشر والعار وانعدام الضمير الذى يغرق فيه أمثال هؤلاء الأطباء؟! أطن أن السؤال الأهم هو عن انحطاط جنسنا البشرى وانهياره الأخلاقى، ذلك المخفى حاليا وراء غبار كثيف من مظاهر التقدم والرقى التقنى والغرور والتعالى التكنولوجى.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.