منذ أربعة وثلاثين أسبوعا وأنا أقوم -فى موقعى- بقراءة استلهامية نقدية لما خطه نجيب محفوظ فى «كراسات التدريب» بعد الحادثة: أكثر من خمسمائة صفحة، احتفظت بها بكل حرص، وسلمتها إلى الصديق الأستاذ الدكتور جابر عصفور، مقرر لجنة الحفاظ على تراثه، الذى سمح بنسخة منها لأتم هذه الدراسة، وقد أرسلت لهذه الصحيفة الغراء قراءتى للصفحة 33 مع صورة من خط يد محفوظ شخصيا، أملا فى أن تنشرها لتلحقها هذه المعايدة، إلا أن صعوبات فنية حالت دون نشر خط يده!! مع وعد بإعادة المحاولة، فقررت أن أجرب أن أقدم هذه المعايدة دون صورة، آمِلا فى حل الصعوبة لاحقا. كتب نجيب محفوظ فى الصفحة 34 من الكراسة الأولى من كراسات التدريب بتاريخ 30 رمضان سنة 1415 هجرية (ليلة العيد) ما نقلناه كما يلى: بسم الله الرحمن الرحيم نجيب محفوظ عيد بأية حال عدت يا عيد يا ليلة العيد أنستينى وجددت الأمل فينا نجيب محفوظ كل عام وأنتم بخير نجيب محفوظ 2 /3/ 1995 القراءة: نبدأ بالمتنبى، وقد سبق أن أشرت إلى إعجاب شيخنا بهذا الشاعر الفحل، وعدم مسايرتى له فى هذا الإعجاب، رغم احتفائى بشعره وتحفظى على علاقته بسيف الدولة، هذا البيت هو استهلال «دالية» المتنبى، وهى من أروع هجائيات الشعر العربى: عيدٌ بأيةِ حالٍ عدت يا عيد'.. بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد' وكما اعتدت فى قراءتى هذه، فإنى أعتبر ما ظهر على السطح فى التدريب هو قمة جبل وعى تحرك فى عمق وجدانه، فأبحث عن بقية الجبل وأسمح لنفسى بالتداعى، والانتقاء، وهذا المقال مجرد عينة للمنهج: أنظر كيف تصور المتنبى أن الأسى حين يشتد يصل إلى «اللا مبالاة» أو «البلادة». أصخرةٌ أنا؟ ما لى لا تحركنى.. هذى المُدام ولا هذى الأغاريدُ أو حين يصف كيف يتقزز الموت من نتن جثة فاسدٍ حتى بعد موته. / ما يقبِض الموتُ نفساً من نفوسِهِموُ.. إلا وفى يَدِهِ مِن نتنها عودُ / أو حين يصبح السيد عبداً والعبد سيداً. / صار الخَصِىّ' إمامَ الآبقينَ بها.. فالحر مستعبدٌ والعبدُ معبودٌ / نامتْ نواطيرُ مِصرٍ عن ثعالبِها.. فقد بَشِمْنَ وما تفنى العناقيدُ (بَشِمْ من الطعام أكثر منه حتى أتخم) هل يذكرك أى من هذا بحالنا بشكل ما، لم أكن قد قرأت هذه القصيدة قبلا، ورغم دقة صقلها لم أحبها، فقد وصلتنى منها عنصرية بشعة ضد السود، وكأن السواد فى حد ذاته سبة وعار، وحتى معايرته كافور، بأنه خصىّ، لا تليق، فهو لا ذنب له فى ذلك بل ذنب من فعل به ذلك، رفضتُها وشعرت بأن هذه القسوة هى الوجه الآخر لتدلههه الذليل فى حب سيف الدولة، وكلا الموقفان مرفوض عندى مهما بلغ شعره من قوة وفحولة. / عذرا يا شيخى العزيز، وكأننا نكمل نقاشنا مختلفين. / وقد أجاب شاعر معاصر -لم أعثر على اسمه للأسف- على تساؤل المتنبى قائلا: يا شاعر السيف والقرطاس إن بنا.. أضعاف مابك آلام وتنكيدُ / دعنى أجيبك ما للعيد تسأله.. بأى حال أتى هل فيه تجديدُ؟ / بكل ما ألحقت أيدى الدمار بنا.. بكل فاجعة: قتلٌ وتشريد / لم تبق مهلكة إلا سقَت وطنى.. كأس الهوان واغتيل الصناديد / شعب يباد وأرض تستباح ومن.. خلف الشتيتين آفاق وعربيد أعارَنَا جبنه العبرى ثم مضى.. يدكنا غضبٌ يُدعى عناقيد فهبّ قادتنا للرد حينئذ.. لكن ردَّهم شجبٌ وتنديدُ وما زلنا نواصل التدريب على أسلحة الشجب والتنديد بمهارة لا تبارى! لست أعرف لماذا يقلّبنا العيد هكذا؟ فتقفز آلامنا إلى السطح بكل أشواكها وقسوتها، مع أن المناسبة هى فرحة وتعاطف وتهانٍ ودعوات؟ قصيدتى الوحيدة فى العيد هى من أكثر القصائد إيلاما لى كلما أعدت قراءتها، وعلى الرغم من أننى -بعيدا عن الشعر- أفرح بالعيد لما يعد به من تجديد آمال، وما يصاحبه من صلة رحم، ناهيك عن العيديات صغارا، وعن فرحتنا بلبس الجديد، وهو ما افتقدته فى الشعر، فهذه القصيدة تقول عكس كل ذلك: -1- مارتَّبَ مهدى قبلَ النومْ، بعد النومْ. ما مرّت كفٌّ حانيةُ -غافلةٌ- فوق الخصلهْ. /ما أعطانى اللُّعٌّبهّ. -2- ما حاكت لى جلباباً ذا صوتٍ هامسْ. / لم يمسسه الماءُ الهاتكُ للأعراضْ. / لم يتهدّل خيطُه. / لم تتكسَّر أنفاسُه. -3- صدّقتُ بأن الماحدثَ طوال العامْ، / يأتينى الآن. لم يأتِ سوى الطيف الغامضْ. -4- أجرِى بين الأطفالِِ وأرتقبُ «العادهْ». / ذات بريقٍ وحضورٍ وروائحَ وكلامْ. / يقطر ثدىُ العمِّ رحيقَ الرُّضَّعْ. / أتلفع بُالورقةِ تُدْفئنى، / تتمايلْ. تتأرجحُ مثل الأيام. / تتفتَّح أكمام الحُبِّ الآخرْ. فأخاف النوم وصبحا يترقَّبنُىِ. -5- أقف بذيل الصَّفِّ وأفركُ كفِّى، أيديهم فَرِحَه. تبحثُ عن ظِلَّ البسمهْ، وذراعى مبتورهْ. تختبئ بثنيات الوعد الميّت. أنزعُها..تنَزَعنُى. أهربُ من كومة ناسٍ مختلطهْ. أخرج من باب الدرب الآخرْ. -6- دربى بكرٌ فوق حصاهُ تسيل دماءُ القدِم العارِى. يتبعنى الناسُ المِثلى، ليسوا مثلى. من مِثلى لا يسلكُ إلا دربه، يحفره بأنين الوحدهُ، يزرع فيه الخطواتُ الأولىَ: -دوماً أولىَ- يَرْويهَا بنزِيفِ الرّؤيْهْ. تتفتح أكمامُ العيد بلا موعدْ. ذات بريقٍ وحضورٍ وروائح وكلامُ. 21/7/1982 أول شوال 1402 تكملة قراءة التدريب: يلحقنا محفوظ -بعد كل هذا الغم- بحضور حبيبتنا وحبيبته أم كلثوم «تجدد فينا الأمل»: «يا ليلة العيد أنستينا وجددت الأمل فينا». إلا أننا نلاحظ أنه كتب «أنستينى» ولم يكتب «أنستينا»، شيخى يأتنس بنفسه كما يأتنس بالناس، وبنا، فرحت أنه استعمل صيغة المفرد «أنستينى» بعد بيت المتنبى الساخط، واطمأننت عليه فى هذه المرحلة بالذات، إذْ يأتنس بنفسه فالناس، وبالعكس، عند كل مواجهة قاسية مع الواقع الصعب. وأخيرا لاحظت فى هذه الصفحة بالذات أنه كتب اسمه «نجيب محفوظ» (زيادة) وسط النص بين: «أنستينى» و«كل عام وأنتم بخير»، وهذا غير مألوف لى حتى الآن، فهو يكتب اسمه فى بداية التدريب، وعند التوقيع قبل التاريخ، فقدرت أنه بعد أن أزاح همّ المتنبى، وأحضر بهجة الأمل مع أم كلثوم، أئتنس بنفسه وجدد أمله، فأثبتَ ذاته، فوجَدَنَا حوله، فحيّانا ب«كل عام وأنتم بخير». وأنتَ بالصحة والسلامة يا شيخنا الغالى، ومصر كلها كذلك. يارب