كتب - بيتر مجدي ظل صامتًا طوال حياته.. وعندما كتب مذكراته أوصى بنشرها بعد وفاته باع كل ما يملك «بيتين وصيدلية» وأعطى الحصيلة للفقراء.. من أجل الرهبنة فى دير الأنبا مقار، راهب قبطى يجتذب 500 زائر كل يوم، اسمه متى المسكين، أو متى الفقير. كان عمره وقتها 29 عامًا، عندما أنصت إلى قول يسوع «بِع كل ما لك»، فباع كل ماله من بيتين وصيدلية، وأعطى الحصيلة للفقراء، وأبقى فقط على ثوب له. ولد فى 20 سبتمبر عام 1919، لأسرة كبيرة عددا، ومحبة للعلم، كرَّس نفسه للصلاة والنسك، وعاش على الخبز والماء، كتب أكثر من 180 كتابًا ونبذة، أكثرها كتب بحثية فى أمور الكنيسة، وبدأ فى إعادة تشكيل الحياة الرهبانية القبطية بشكل عميق، إلى درجة أنه كان أحد الثلاثة المرشحين ليكون بطريركًا قبطيًّا فى الانتخابات البطريركية عام 1971. كُتب متى المسكين، التى مُنعت بمعرض الكتاب القبطى الثانى، الذى يقام حاليًّا، اعتبرت منذ وقت كتابتها حتى الآن، من أهم ما كُتب، وتأثر بها كثيرٌ من مسيحيى الشرق الأوسط، وأبرزها «حياة الصلاة الأرثوذكسية»، الذى صدر عام 1952، و«الكنيسة والدولة»، و«كيف تقرأ الكتاب المقدس». ورغم أن متى المسكين، أثير حوله جدل كبير طوال سنوات حياته، خصوصًا عندما جلس مع الرئيس السادات فى سبتمبر 1981، وقت خلافه مع البابا شنودة، فإن الرجل ظل صامتًا، ولم يدافع عن نفسه، أو يتحدث عن هذه الواقعة إلا فى مذكراته، التى نُشرت بعد وفاته، حيث تركها لتلاميذه عام 1978، وطلب عدم نشرها فى حياته، وعندما رحل عن عالمنا فى 8 يونيو 2006، عكف رهبان دير القديس أنبا مقار، حيث كان يقيم الأب متى، على تسجيل مذكراته وطباعتها، التى تضمنت سيرة حياته، الطفولة، الصبوة، الحياة المدرسية، ثم الدخول إلى الرهبنة، وخُصص باب لما جرى مع الرئيس السادات، وباب آخر لشهادات عن الأب متى المسكين. بعد وفاته، كتبت عنه كبرى الصحف العالمية، ومنها «الإندبندنت» البريطانية، و«التايم» الأمريكية، التى اختارته كأحد القديسين، وقالت عنه، «مذكرات الأب متى المسكين بكل ما فيها من تفاصيل بمثابة واحة خضراء وسط صحراء عالمنا الساخنة بالمعارك والحروب». ويحكى متى المسكين موقفًا عندما كان مقيمًا فى منيل الروضة، قائلا «ذات يوم لم أخرج، وكان باب الفرندة مغلقًا بالشيش فقط، فكنت أسمع وأنا نائم على سريرى ما يدور بين صاحبة المنزل، مسلمة، فوقى وبين الجيران أمامى، وبدؤوا يتكلمون عن سلوكى، وكيف أنى لم أجرح شعور أحد من الجيران قط، فردت صاحبة المنزل على استفسارهم منها عن سبب اختلافى عن باقى الطلبة القاطنين فى نفس المنزل، فقالت لهم لأنه مسيحى.. أثرت فى هذه الكلمة، وأدركت قيمة الشهادة للمسيح بالسلوك». وتتناول مذكرات متى المسكين جانبًا هامًا أثر فى فكره وحياته بشكل كبير، هو العلاقة بين المسيحيين والمسلمين، فيقول: «العجيب أن صداقتى وحبى للمسلمين كان موضع تساؤل مستمر من المسيحيين، وكأنه أمر يؤذيهم، فكنت أزداد عجبا وغيرة، فأحدثهم عن أصالة الوعى المسيحى، أنه وعى إنسانى قبل كل شىء». ويضيف «كنت أبذل جهدا فى إزاحة الحواجز التى تحجزنى عن المسلمين، لأنها حواجز موروثة ومتبادلة، غير أنى كنت أكتشف يومًا بعد يوم أنها حواجز مصطنعة وليست أصيلة، فليس لها أصل عرقى عنصرى قط». فترة هامة، هى التى أصدر فيها السادات قرارًا باعتقال عدد من السياسيين ورجال الدين، مسيحيين ومسلمين، عام 1980. خصص متى المسكين بابًا كاملًا عن لقاءاته بالسادات، والأزمة بين الثانى والبابا شنودة. رفض عزل السادات ل«البابا».. وقال عنه: يوم أسود فى حياته يحكى متى المسكين تفاصيل ما وقع بين السادات والبابا شنودة: «حدثت الأزمة فجأة بإعلان الكنيسة القبطية يوم 26 مارس 1980 إلغاء الاحتفالات بعيد القيامة الموافق 6 أبريل 1980، وبرفضها لأول مرة فى التاريخ، بروتوكول الحكومة الخاص بالمندوبين المرسلين من قبل رئيس الدولة للتعييد على الأقباط داخل الكنائس، سواء فى القاهرة أو الإسكندرية أو باقى المحافظات، وتطبيق ذلك أيضًا على كل الكنائس القبطية فى كل بلاد العالم، بمنع السفراء والقناصل من دخول الكنائس القبطية لتقديم تحية العيد للأقباط». ويتابع فى مذكراته «كان هذا فى نظر بعض السياسيين تحديًّا شخصيًّا للرئيس أنور السادات، خصوصًا أن توقيته جاء متزامنًا تمامًا مع استعداده للسفر إلى أمريكا للتفاوض فى مشروع الحكم الذاتى للفلسطينيين». ويتحدث عن لقائه الأول بالسادات: «أجبرنى بعض أراخنة الأقباط على التدخل لحل الأزمة، لكن بعد فوات الوقت، فقابلت الرئيس السادات مساء السبت 5 أبريل 1980، قبل سفره بيوم واحد إلى الولاياتالمتحدة، وذلك بعلم ورأى قداسة البابا شنودة والمجمع الموسع، الذى انعقد فى دير الأنبا بيشوى، كمحاولة لحل الأزمة فى آخر لحظة. فأخبرنى الرئيس فى هذه المقابلة بأنه مستاء من تصرف الكنيسة. ثم أقنعنى بعض الأساقفة بضرورة مقابلة الرئيس بعد عودته لتقديم مذكرة توضيحية من اللجنة البرلمانية المقترحة لمتابعة شؤون الأقباط، لتكون بمثابة قناة شرعية بين الكنيسة والدولة، وقابلته بالفعل بعد أخذ البابا علمًا بالمقابلة، وقدمت له المذكرة فقبلها ووعد بدراستها». اعترض على عُزلَة الأرثوذكس.. فمُنعت كتبه بعد وفاته ويوضح ما حدث بعد تطور الأزمة، «دعيت لمقابلة السادات، وطلب منى إبداء الرأى فى ما وصلت إليه العلاقة بين الكنيسة والدولة، واقترحت أولا مصالحة البابا، فرفض الرئيس رفضًا باتًا، فاقترحت حلًا وسطًا بتعيين لجنة وساطة من بعض الأساقفة مع بقاء البطريرك كما هو، فرفض، ثم اقترحت تعيين هيئة علمانية من المسؤولين الأقباط للتعامل مع الدولة وبقاء الكنيسة بعيدة، فرفض أيضًا.. ولما علمت بالنية القاطعة لتوقيف البابا البطريرك وإبعاده، جاهدت أن لا يمس هذا الإجراء الوضع الدينى، وهو الشق الأول من تنصيبه، وهو وضع اليد والصلاة واستدعاء الروح القدس للتقديس، فهذا ليس من اختصاص الدولة. وإن كان يحسب هذا اليوم هو اليوم الأسود فى حياتى». سر صمت البابا تواضروس على منع كتب الأب «متى» إحدى مراحل خلاف «شنودة/ متى المسكين» ظهرت خلال اليومين الماضيين، مع بدء التجهيز لمعرض الكتاب القبطى فى نسخته الثانية، فقد طلب الأنبا موسى أسقف الشباب المسؤول عن تنظيم المعرض، من منسق الدير عدم عرض الكتب الخاصة بالأب متى المسكين التى اعترض عليها المجمع المقدس، فى حين رفض دير أبو مقار هذا الطلب، ورفض المشاركة فى المعرض بأى إصدار من إصداراته. إرهاصات الخلاف بين الراهب والبابا بدأت عندما شكّل الراهب متى المسكين مجموعة من الرهبان، وذهبوا لتوحد فى مغارات فى وادى الريان بالفيوم، ثم غادر الراهب أنطونيوس السريانى، «البابا شنودة» حياة التوحد هناك، ربما لعدم احتماله وعودته إلى دير السريان والتوحد فى مغارة بالقرب من الدير، ثم بعدها رسم أسقفًا للتعليم فى سبتمبر 1962. لكن الحلقة الأبرز فى الخلاف بين الرجلين، عندما قرر السادات التحفظ على البابا شنودة، فى سبتمبر 1981، والصورة الذهنية التى تكوّنت عن الأب متى المسكين وقتها بسبب تواصله مع السادات، أنه طمعان فى الكرسى البابوى. البابا شنودة كان يتعامل معه البعض باعتباره زعيمًا روحيا ووطنيا، وقد دخل فى صدام حاد مع السادات عندما طلب منه أن يذهب الأقباط للحج فى القدس على خلفية إتمام معاهدة السلام، إلا أنه رفض وقال جملته الشهيرة التى أغضبت السادات: «لن ندخل القدس إلا مع إخوتنا المسلمين»، فقام بعدها السادات بالتحفظ عليه، فى حين كان الأب متى المسكين يرى أن الكنيسة ليست مؤسسة تجمع الأقباط أو تجمع الدين والهوية، وأن المسيحية ليست جنسية قومية بديلة، وأنه لا بد من ضبط الحدود بين الطقوس الدينية والأدوار السياسية. الأب باسليوس: نعلم أن قداسة البابا مسافر إلى روسيا.. لكننا لن نشارك فى المعرض القبطى بعد ذلك الأب باسليوس المقارى، أحد تلاميذ الأب متى المسكين، قال ل«التحرير»، عن أزمة عدم عرض كتب الأب متى المسكين بمعرض الكتاب القبطى فى نسخته الثانية، إن المسؤولين عن المعرض قالوا إن «هناك كتبًا اعترض عليها الأنبا شنودة». باسليوس أضاف «لن نذهب إلى هذا المعرض لا هذه المرة ولا السنوات القادمة، نحن لا نحتاج إلى شىء من المعرض، ولا نستفيد شيئًا»، مضيفا فى العام الماضى وجهوا دعوة ذهبت إلى دار مجلة مرقس، مؤكدا «كتب أبونا متى أعلى من أن أى شخص يعترض عليها». وحول موقف البابا تواضروس من منع كتب الأب متى المسكين قال: «قداسة البابا كان فى روسيا وقت أن قيل هذا الكلام، وقررنا الامتناع عن الذهاب للمعرض»، مضيفًا الكتب تباع ولا نلاحق على طباعتها، وأشار إلى أن ما يحدث هو «المعركة الدائمة بين النور والظلمة منذ الأزل، أو بين التنوير والجهل». منسق التيار العلمانى القبطى، كمال زاخر يرى أن الهجوم بشكل مستمر على الأب متى المسكين حتى بعد رحيله له عدة أسباب أبرزها وجود مناخ عام للتراجع الثقافى والفكرى يؤدى إلى التراجع اللاهوتى، موضحًا بينما أخذ الأب متى طريقًا بمفرده، وأصبح واحدا من اللاهوتيين المهمين فى العصر الحديث.