الأسماءُ كالعناوين.. دليلٌ إلى المكان وذاكرة للوطن. وأسماءُ الشوارع ليست مجرد لافتاتٍ حديدية، وإنما هى حكاياتٌ وأسرارٌ وتاريخ يجرى فى عروقنا. هناك دائمًا ما يُسمى سلطة المكان. سلطة قد تتكئ على التاريخ، ومن ذلك شارع الموسكى. فقد كانت القاهرة تحمل قبل بداية أعمال التحديث الكبرى فى عهد الخديو إسماعيل سمات المدينة الإسلامية التقليدية؛ إذ تألَّفت من نسيج ملتحم وكثيف، وتتخلله حوارى ضيقة يتضمَّن تراصفها العديد من البروزات والتعرجات، والحارات «السد». وهناك شارع واحد صالح لمرور العربات، وهو شارع الموسكى الذى تم شقّه خلال النصف الأول من القرن العشرين. من يومها وشارع الموسكى له مكانه ومكانته، وارتباطه بالبدايات والعراقة، حتى وإن تقادم وتغيَّرت ملامحه عبر الزمن. إن الشارع يقترن بالاسم، حتى يرسخ فى ذاكرة الناس والزمن، ويصبح حتى الإشارة إليه بالاختصار دالاً وكافيًا فى كثير من الأحيان. أنت على سبيل المثال تقول: شارع العقاد، للإشارة إلى الشارع التجارى المزدحم فى مدينة نصر، الذى يحمل اسم الأديب الكبير عباس محمود العقاد. والشوارع سمعة. حتى اليوم، وبعد أن أُطفئ كثير من أنواره وفقد شهرته التى اكتسبها فى زمن مضى، ما زال شارع كلوت بك وساكنوه يعانون من ذاكرة الناس والصور الذهنية التى تتشبث بالاسم مثل تمسّك رضيع بأُمِّه. وهكذا دواليك. ويبدو أن الشارع أو المكان يأخذ جانبًا مهمًّا من الحياة العامة، ليس فى بلداننا فحسب بل فى البلدان الأخرى. ولعل هذا ما دار فى خلد أعضاء لجنة التحكيم فى منافسة على أحد مواقع الإنترنت حول اسم الشارع الأكثر غرابةً فى الولاياتالمتحدة. اللجنة اختارت اسم شارع المجانين يليه شارع منطقة الطلاق.. وشملت المسابقة أسماء أكثر من 2500 شارع. وشارع المجانين بالمناسبة هو زقاق خاص صغير فى مدينة ترافيرس بولاية ميشيغان، بينما يقع شارع منطقة الطلاق فى هيثر هايلاندز بولاية بنسلفانيا. خسارةٌ أن المسابقة لم تسمح لشوارع مصر بالمنافسة.. فأسماء الشوارع عندنا يمكن أن تدير رؤوس أى لجنة تحكيم، بدءًا من شارع «الماء والليمون» وهو يقع فى منطقة الملك الصالح، ومرورًا بشارع «إسطبل عنتر» الذى يوجد بمنطقة مصر القديمة، وشارع «كعابيش» الكائن فى منطقة الطوابق بالهرم. بل إن الجائزة كانت ستغازل شارع «بين النهدين» الذى يلتقى عند نقطة ما بشارع الأزهر.. إضافة إلى شارع «الوالدة باشا»، والمقصود بها والدة الخديو إسماعيل التى أنشأت مسجد الرفاعى فى حى القلعة.. أو حتى شارع «شق التعبان» أو «تل العقارب». وأنا متأكد من أن أعضاء لجنة التحكيم كانوا سيفغرون أفواههم إذا سمعوا عن شوارع تحمل أسماء «بهلول» و«شملول» و«الشيخ العبيط» و«ترعة المجنونة».. وغيرها من أسماء شوارع المحروسة. وإذا كنا ندعو إلى مراجعة شاملة لأسماء مثل تلك الشوارع.. فإن ما يلفت انتباهى الآن هو اغتصاب أسماء الشوارع بهدف نيل شهرة أو شعبية غير مستحقة. وجريًا وراء وهم الخلود، تجد الكثير من السياسيين ورجال المال وأصحاب النفوذ فى مصر يستعجلون الزمن ويحرصون على أن تكون أسماؤهم عناوين لشوارع ومحطات حافلات ومترو أنفاق. من حق أى شخص أن يحلم بالخلود فى ذاكرة وضمير أُمته.. لكن هؤلاء الذين احتلوا الأسماء فاتهم أن الناس يقولون: ميدان التحرير.. غير عابئين بأن اسمه الرسمى ميدان الرئيس أنور السادات (أو حتى ميدان الإسماعيلية)، ويصرون على أنها محطة رمسيس (أو الشهداء) لمترو الأنفاق، مع أنه ظل مكتوبًا عليها بالخط العريض -لنحو ربع قرن- اسم حسنى مبارك. ومع ذلك فقد تغلَّب رمسيس -التمثال الذى نقلوه من الميدان- على اسم منافسه، الحاكم الذى سيطر على مقاليد الحكم فى المحروسة طوال ثلاثة عقود- بالضربة القاضية الفنية. وكما يكتب الأقوياء والمنتصرون التاريخ على حساب الحقيقة، نجد المهزومين يكتبون الأسماء التى تمجّدهم كجزء من لعبة المنجزات الوهمية. لماذا تهبط الأسماء من علوٍّ مرتفع على رؤوس الشوارع؟ تساؤلٌ مشروع نطرحه فى وجه مَن يريدون فرض أنفسهم على الذاكرة الشعبية. لكن ينبغى للجميع أن يعرفوا أن للشوارع ذاكرة غير تلك التى يُلبسها لها البعض.. لا حقيقة لها خارج أسمائها، ولا معنى لها خارج حكايتها ولا لون لها بعيدًا عن مُسمياتها المنسية. من فضلكم: لا تغتصبوا أسماء الشوارع والأماكن.. احترموا ذاكرتنا!