على أطراف الميدان كان برما يجلس وحيدا يرتدى قبعة يحتمى بها من الشمس، فرحت برؤيته وهرولت ناحيته «فينك يا برما وحارمنا ليه من كلامك وقلشك»، ابتسم نصف ابتسامة قائلا: لقد كرهت القلش منذ هبط علينا مبارك بقلشة «خليهم يتسلوا» لقد كانت «القلشة» التى قصمت ظهر البعير. قلت له: برما ماتزعلش منى هناك من يقول إنك ستصوت للفريق شفيق فى انتخابات الرئاسة، نظر ناحيتى بغضب قائلا: حملة شفيق تتاجر باسمى حتى تحقق له بعض الشعبية، لكننى لن أفعل ذلك أبدا.. مشكلة شفيق أنه حل وسط فى عهد ثورة لا تقبل مثل هذا النوع من الحلول، ولا يتسق مع طموحاتها، ويبدو نشازا فى سياقها. قلت له: مش فاهم، فقال: هناك كثيرون مثلك يلزمهم بعض الوقت حتى يصبحوا بهائم.. نفترض أن دار الأوبر كانت محتلة لسنوات طويلة بسعد الصغير وفرقته.. وكان بين أعضاء فرقته عازف إيقاع، ثم قامت ثورة بقيادة أنغام واحتلت الأوبرا وطهرتها.. هل تعتقد أن هذا العازف الذى قضى عمره يعزف «النهارده فرحى يا جدعان» و«إحنا ولاد ميت نما» بكل ما فى هذه الأغانى من وقاحة موسيقية شكلت شخصيته.. هل تعتقد أنه سيستطيع يوما إذا ما عينته أنغام قائدا لفرقتها بحكم خبرته فى الأوبرا أن يجيد عزف «فجأة هز الدنيا صوتكو.. والحياة رجعت بموتكو.. والسنة اتسمت يناير.. شلتوا من عينا الستاير»؟ علميا مستحيل أن يندمج فى هذا الغناء الثائر بعد سنوات تيبس فيها ذوقه الموسيقى وهو يعزف فى الأفراح البلدى.. وبالمناسبة الكلام نفسه ينطبق على كثيرين، البلد يمتلئ بحلول وسطى وأنت فاهمنى. قلت له: فهمت.. طيب ما رأيك فى موضوع تسليم السلطة للمدنيين، قال: يرى البعض أنه مطلب غير منطقى واللوائح لا تسمح به إلى آخر هذا الهرى.. اللى أنا أعرفه أنه مطلب شعبى يجب الاستجابة له.. إزاى؟ هذه ليست مسؤولية الشعب مسؤولية من يديرون الدولة، وإذا كان المطلب به شىء غير منطقى فمهمة الدولة أن تمنطقه، وهى تجيد فعل ذلك بضراوة، ولها فى ذلك سوابق كثيرة. قلت له: شكلك منحاز بشكل أعمى لشباب الثورة، فقال: عندما تتهمهم طوال الوقت بأنهم بلطجية، ثم تقرر إلغاء قانون الطوارئ فيما عدا حالات البلطجة، فأنت تتربص بهم بشكل قانونى، ثم تطالبهم بأن ينضموا إلى أحزاب.. هذه الطاقة الجبارة تريد منها أن تجعل شغلها كله داخليا، تريد أن تقننها بكارنيهات، كان أولى بك أن تجمعهم فى مشروع وطنى لا مشروع حزبى، كم من الوقت يلزم هذه الكتل البشرية التى ملأت الميدان لتبنى لك «سد عالى» جديداً أو تمحو أمية بلاد بأكملها أو تحول سيناء إلى معجزة عالمية.. تقريبا هو نفس العام الذى أهدرته فى استهلاكهم. قلت له: ومن المسؤول عن الكركبة التى نعيش فيها؟ فقال: ماليش فيه.. لقد مللت لعب دور وكيل النيابة الذى أصبحنا جميعا مغرمين به، فنصحو يوميا على الريق، لنجد كل الناس بتوجه اتهامات إلى كل الناس بطريقة تضايق كل الناس. التغيير الحقيقى يبدأ عندما تساعدنى أن ألعب دورا آخر، سئمت أن نعيش بعد عام من الثورة فى قاعة محكمة نتبادل بداخلها الأدوار، العمر يمر ونحن فى جلسة بين اتنين متجوزين متخانقين لا همّ بيتطلقوا ولا همّ بيرجعوا لبعض واحنا ورانا شغل وعايزين ننزل. قلت له: طيب ممكن أفهم إنت جاى الميدان النهارده ليه؟ فقال: مع احترامى لفكرة أن مصر أمى، صرت أؤمن أن الميدان هو أمى، لقد ولدت هنا من جديد، ومن فينا لا ينتهز أى فرصة حتى يركع عند قدمى أمه ليقبلهما ويحصل على البركة؟ قلت له: سؤال أخير.. هل أنت نادم أنك هتفت يوما ما «الجيش والشعب.. إيد واحدة»؟، فقال: نادم لأننى لم أفكر فى الهتاف قبل أن أردده، إيد واحدة ماتصقفش.. فما الذى تستطيع أن تفعله بعد ذلك غير إنها تقعد تلطم؟