كثيرا ما يحصر بعض مثقفينا وبثقة مصير أسئلة وإشكاليات معقدة وصعبة فى إجابات بسيطة يطلقونها بكل ثقة، «الفقر» إجابة بسيطة مثلا فى محاولة تفسير أسباب ظاهرة الإرهاب، «السلطوية والاستبداد» أو «عدم استيعاب تيارت أقل راديكالية فى العملية السياسية فى البلدان العربية» إجابتان على نفس الدرجة من البساطة فى محاولة الرد على: لماذا يتحول أحدهم إلى إرهابى وقاتل محترف. بينما يفشل مثل تلك الإجابات بسهولة، نموذج محمد عطا «من ضرب برج التجارة العالمى بطائرته»، وهو ابن الطبقة الوسطى المصرية، وصاحب النصيب الجيد من التعليم الغربى. كذلك تبدو الإجابتان الأخريان غاية فى الهشاشة، إذا واجهت أصحابها بحقيقة وجود إرهاب فى تونس «الدولة التى استوعبت الإخوان المسلمين»، أو تطرف بعض المواطنين الغربيين وانضمامهم إلى «داعش» مثلا. الأمر ليس مقصورًا على تفسير ظاهرة الإرهاب، لكنك تلمحه فى إجابات لا تتعدى كلمتين لسؤال صعب عن آلية تمويل الخزانة العامة للدولة، وأحدهم يقترح عليك كلمات تعبر عن ماضٍ اقتصادى ذهب بلا رجعة. أحدهم اتهمنى بأنى لا أعبر عن الثورة، أثناء عمل لجنة الخمسين، حينما قلت له إن الضرائب التصاعدية «التى اقترحها هو كحل بنص دستورى» منفرةٌ للاستثمار، خصوصا فى لحظات مثل تلك التى نعيشها، حيث المناخ طارد بحكم الإرهاب، وعدم الاستقرار السياسى، وبدلا من أن ننفره بالمزيد علينا أن نشجعه، ونبحث عن وسائل مرنة ومتغيرة وحوافز جاذبة له، كما فعلت دول فى تجارب مشابهة. وأطلق أحدهم تعبيرا شبيها، غير مباشر، حينما قُلتُ إن الحكومة الحالية لا يجب أن تتحمل تبعات أزمة الكهرباء كاملة، وإن كانت مسؤولة عن غياب استراتيجية انتهاج الشفافية فى مواجهتها، خصوصا أن الأزمة بدأت عمليا منذ عام 2010، وقال هو «المشكلة لدى وزير الكهرباء الذى يجب أن يستقيل فورا»، والمشكلة خفض السقف، الذى صار البعض ينتهجه فى التعاطى مع فشل بعض المسؤولين! أزمة بعض مثقفينا هى إنكار الإجابات المركبة فى مقابل تفضيل هذا النوع من الإجابات السهل، والجاهز، الذى يطلقه صاحبه بثقة شديدة فى مواجهة أصعب الإشكاليات وأكثر الأسئلة تركيبا وتعقيدا. إنه اعتياد تربينا عليه فى مدارسنا، حيث عرفنا أن الإجابة السهلة التى تطلب تلقينا وحفظًا ونقلا وتكرارًا، كثيرا ما تحتاج إلى تحليل أو تفكير أو إبداع، هى ما يقود إلى التفوق. لكن حتى حينما نهرب من أسر وقيود التقليدى والنمطى نحو مفاهيم وقيم أوسع فى التعامل مع الحياة والشأن العام نكرس دون قصد لمستقبل شبيه بالماضى، بعدم الاستناد إلى استراتيجية أعمق مقابلة فى مواجهة الفشل، بل إلى رأى مؤدلج لرمز الطائفة الاقتصادى، وأستاذ علومها السياسية، أو خبيرها فى العلاقات العسكرية مثلا، فنتحول إلى ناشرين، وحسب لما هو عام وسائد لدى أصدقائنا ومن يشاركوننا الرؤى السياسية، متجاهلين ما نناشد المجتمع تعلمه وهو «النقد» و«التحليل» ومحاولة «النظر إلى الأمور بعمق». الإجابة السهلة لدينا أيضا وفى بعض الأوقات هى نابعة من هذا الاعتياد لدى مثقف دائما ما يرى نفسه خصمًا للسلطة، سواء أكان هذا بإرادته كنمط مؤدلج «لتعريف المثقف»، أو كونه طوال الوقت -بحكم كراهية السلطة للمعارضة- كان خارج المؤسسة الحاكمة أو أجهزتها، وهو ما يعنى بالضرورة أنه محروم من المعلومة وتفاصيلها بعمق وحقيقة الأرقام التى تتعاطى معها. لذلك لن تندهش وأنت ترى البعض يطلق بثقة شديدة تفسيرا لإشكالية وطنية كبرى فى دقيقة «كما طلبت منه المذيعة نظرا لوقت البرنامج»!. حتى باحثونا العاملون فى مجال العلوم الاجتماعية، الذين بحكم التعريف ووصف مهنتهم «بحث»، فى ظل تردى مستوى البحث العلمى فى مصر اعتادوا السير على منهج الإجابات السهلة نفسه. ارجع إلى المفكر الفرنسى فلان وما قاله، عد إلى الباحث الأمريكى فلان وما أشار إليه فى تفسير ظاهرة «مصرية خالصة».. فتجد نفسك أمام نظرات استشراقية لا علاقة لها بمصر، ولا بغيرها كثيرا ما يطلقها باحثون مصريون فى تفسير واقعنا. عمليا لا يدرك بعض مثقفينا أنهم يرتكبون جريمة فى حق الناس، الذين يسعون إلى أن يعيدوا إليهم بسلامة نية حقوقهم المسلوبة، فوسط عرض واسع للإجابات السهلة التى قد تغلفها خطابة المتحدث وقدراته الكاريزمية على الإقناع، وقدرته على النفاذ إلى إعلام، بعض وسائله أشبه بسيرك، قد تضيع الحقيقة والحلول المفصلة السليمة. هؤلاء أيضا لا يعلمون أن الإجابات السهلة تعزز من السطحية، التى يتناول بها بعض الجمهور الأمور، وتكرس انحدار الوعى، وغياب النظرة النقدية فى فهم أسباب المشكلات وحلولها، وهنا فالأمر لا يختلف عن تعزيز تبنى منطق سلفى «من على الوش» فى فهم النصوص الدينية ومشكلات الأمة منبعها الشيخ «الرمز» أو كتيب جيب مختصر لفهم الدين، ومن ثم تعزز السياسات الشعبوية للمسؤولين أكثر مما تشجعهم على السياسات الناجحة القائمة على استراتيجيات وداخلها التفاصيل.