كانت المرة الأولى التى أسمع فيها عن أمينة السعيد على لسان خطيب المسجد فى أسيوط فى سنوات الستينيات الأولى.. لم يسمح عمرى الذى يقلّ عن عشر سنوات إلا بالتقاط ملخَّص الخطبة الذى يشير إلى امرأةٍ شريرةٍ اسمها أمينة السعيد تُجاهر بمعصية الله تعالى، وتدعو إلى انتشار الرذيلة فى المجتمع، استقرّ فى وعيى كصبى صغير كراهية هذه الشيطانة، وكررتُ ما سمعتُه على أصدقائى، وكان طبيعيا أن يمتد غضبى إلى الدولة التى تسمح لهذه الشيطانة بممارسة شرورها.. الحمد لله أن غضبى من الدولة لم يتجاوز مرحلة الشعور إلى الفعل الغاضب، وإنما تحوّل فقط إلى حيرة، إذ كنتُ فردا فى أسرة فى مدينة فى مجتمع يحبّ رأس هذه الدولة حُبًّا جارفا، لكن بقيت مشاعرى السلبية تجاه أمينة السعيد. بعد ذلك بسنوات قليلة وقع فى يدى فى بيتنا أحد أعداد مجلة «حوّاء»، كان أبى القاضى الأزهرى المستنير يشترى لأمى، عليهما رحمة الله، مجلة «حواء» أسبوعيا، وتتبقَّى من ذكريات الطفولة المبكرة بالنسبة إلىَّ أطياف حوارات بينهما حول ما بالمجلة من موضوعات، عندما تصفّحتُ المجلة شدّتنى آراء أمينة السعيد فى إجاباتها عن أسئلة القارئات فى باب اسمه على ما أتذكَّر «قودينى إلى النور»، كانت الآراء بالغة الرشد والرقى، ولا يوجد بها أى شىء مما سمعته من قبل من خطيب المسجد، لم تكن تحضّ على الرذيلة، بل كانت تُعنّف قارئاتها إذا استشعرت فى شكواهن خروجًا على التقاليد أو خطرًا على تماسك الأسرة.. قرأتُ أعدادًا أخرى ووجدتُ نفس الخط المستقيم لا تحيدُ عنه، كلّ ما فى الأمر أنها كانت تدعو إلى حق المرأة فى التعلّم والعمل وتولّى المناصب دون تمييزٍ، ولا ترى فى الاختلاط فى العمل عيبًا، وإنما تهذيبًا، وتصدّت لبعض العادات كالختان، وكلها آراء قد تكون محلّ اختلاف من البعض، لكنها لا تُبرر اتهامها بالفجور والترويج له.. شعرتُ بغيظ شديد من ذلك الشيخ الكاذب الذى أباح لنفسه قذْف امرأة مسلمة من على منبر رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسبّها بالفاحش من القول، وتعلّمتُ من وقتها أن لا أبنى موقفى من أى شخص «سماعى» من شخص آخر، وإنما من قراءتى المباشرة، وأن لا أكتفى بمصدر واحد للمعرفة، وأن أقرأ كل وجهات النظر المتضادة قبل أن أخرج بوجهة نظرى، ووعيتُ الحكمة من قوله تعالى «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيَّنوا». بدأتُ أقرأ لأمينة السعيد وأقرأ عنها، هى أمينة أحمد السعيد المولودة فى أسيوط فى 1910 للدكتور أحمد السعيد أحد زعماء ثورة 1919، تعرّفتْ فى شبابها على هدى شعراوى، التى فطنت لموهبتها وشجّعتْها على الالتحاق بالجامعة المصرية (1931)، فدخلت كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، عندما كان عميدها الدكتور طه حسين ضمن أول دفعة بنات يدخلن الجامعة فى مصر، ولم يكن ذلك أمرًا سهلا ولا مُستساغًا من المجتمع وقتها، وفى أثناء الدراسة عملت صحفية فى عدة مجلات، وحصلت على الليسانس عام 1935، ثم تزوّجت من الدكتور عبد الله زين العابدين الذى شجّعها على العمل فى الصحافة، فى سنة 1954 أصدر أمين زيدان مجلة «حوّاء»، وكلَّف أمينة السعيد برئاسة تحريرها كأول رئيسة تحرير مصرية، ونجحت المجلة نجاحًا كبيرًا، ثم رأست تحرير مجلة «المصوِّر» بعد فكرى أباظة، ثم رأَست مجلس إدارة «دار الهلال»، وهى أول امرأة مصرية تُنتخَب عضوا فى مجلس نقابة الصحفيين، وأول امرأة تتولَّى منصب وكيل النقابة (1959)، وكانت عضوا فى مجلس الشورى وسكرتيرًا للاتحاد النسائى. هذا تلخيص لما قرأتُه وعرفتَه عن سيرة أمينة السعيد، وقد سألتُ شابًّا منذ أيام عما يعرفه عنها، فجاءنى من شبكة التواصل الاجتماعى بما كتبه أحد «الدعاة» عن نفس السيرة كما يلى: «كان الطبيب المصرى أحمد السعيد ذا تطلّعات أوروبية ومَيْل لتقليد الغرب وتنشئة بناته تنشئة غربية، ووُلدت له أمينة وهو فى الصعيد، فانتقل إلى القاهرة ليُلحق بناته بالمدارس الأجنبية، وفى ظل هذا الفكر نشأت أمينة التى تميَّزت من طفولتها بالتمرد واللهو.. تعرَّفت أمينة على هدى شعراوى وهى بعدُ فى سن صغيرة، وتلقفتها هدى لتصنع من ميولها الأوروبية وسلوكياتها المتمرّدة ناطقا شابا باسم التحلل والارتماء فى أحضان الحضارة الأوروبية، كانت ضمن أول دفعة من الفتيات اللاتى انتسبن إلى كلية الآداب، التى كان عميدها المستغرب طه حسين، ثم انتقلت إلى مؤسسة صحفية متخصّصة فى نشر السموم ضد الإسلام ودعاته، تدعى (دار الهلال) التى أسّسها الصليبى الهالك جورجى زيدان، الذى وقف حياته على تشويه التاريخ الإسلامى وخلفائه الميامين، بأكاذيب صاغ بها قصصه المتعددة التى كتبها بدافع من الحقد الدفين على الإسلام والمسلمين. ومن انحرافاتها: دعوتها إلى الاختلاط المحرم، وادّعاؤها أن (حرية الاختلاط هى أقوى سياج لحماية الأخلاق!!».. طبعا علامات التعجّب كتبها «الداعية» الذى ذكّرنى بذلك الخطيب الكاذب الذى بدأتُ به المقال، قلتُ للشاب هلّا جرّبتَ أن تُنفِّذ أمر الله تعالى «فتبيَّنوا»؟ فسألنى كيف؟ فقلتُ له هلّا جربت أن تستبعد الصفات التى كتبها الداعية وتتأكَّد بنفسك؟ كأنْ تقرأ بنفسك ما كتبته أمينة السعيد لا ما كُتِب عنها، واقرأ مؤلفات جورجى زيدان واحكم هل هذا رجل وَقَف حياته على تشويه التاريخ الإسلامى أم لا؟ واقرأ إصدارات «دار الهلال» لتتأكد بنفسك هل كانت فى أى وقت دارًا متخصصة فى نشر السموم ضد الإسلام؟ رَحِم الله أمينة السعيد وغَفَرَ لها ولنا.