هل يعقل أن نترك مدينة كالإسكندرية بلا محافظ؟ دخلت المدينة الجميلة من مدخلها الغربى، زحام وتكدّس وفوضى عند العامرية، كما لو أننا فى سويقة، وليس فى طريق يُفترَض أنه سريع، ثم بقية المسافة أعمال رصف جعلت الطريق جحيما، وهذا لا يهم، ما دام أن ثمة إصلاحا يحدث، وكما تقول جدتى «تعب ساعة ولا كل ساعة»، لكننى وجدت الفوضى ممتدة يقودها سائقو الميكروباص بتفوق مذهل ربما أكثر من ميكروباص القاهرة، وكالعادة دون أى رادع من قانون أو مرور، فالحكومة هتعمل حسابا للميكروباص وسائقيه أكثر مما تعمل حسابا للجماعة وأتباعها، فقط صادفت بضع سيارات «ملاكى مكلبشة على الكورنيش ولجنة مرور عند مدخل المنتزه أمام الفندق الشهير، فضحكت فى سرى قائلا «فعلا نحن نجيد شكل العمل لا العمل نفسه»، وهذا سبب من أسباب تراجعنا اقتصاديا وتنمويا! ولأننا نعشق هذه المدينة الساحرة، يهون من أجلها أى تعب، فالمشى ساعة على الكورنيش وصوت البحر يناجيك همسا فى الليل، ينعشان الروح والبدن ويثيران فى النفس ألوانا من بهجة الحياة. الصور القديمة عن المدينة أرغمتنى على التفاؤل، فمن هذه المدينة هبّت رياح التحديث إلى أرجاء مصر، سكنها الأجانب فى القرن التاسع عشر، طليان على يونانيين على أرمن وفرنسيين، أضافوا لها نكهة أوروبية دون أن تفقد شخصيتها الشرقية وتقاليدها المصرية، ذاب فيها الأجانب وتعلّم منهم المصريون الإتيكيت الحديث واحترام الآخرين والنظافة المبهرة والحرف الجديدة، وهو ما صوّره الكاتب الرائع أسامة أنور عكاشة فى مسلسله التليفزيونى البديع «زيزينيا»، فقد تعلَّم فى هذه المدينة وعشقها، وكان يرحل إليها مشتاقا مع كل عمل جديد يكتبه، وغيره كثير من الكتَّاب والروائيين والفنانين، فعبقها ساحر أخَّاذ. وقد يتساءل المرء: كيف لمدينة عصرية أن يتكاثر فيها هذا العدد الكبير من التيارات الدينية؟ كيف تخلَّت المدينة عن عصرها، وعاد جزء كبير منها إلى القرون الوسطى؟ أظن أن «تديين» شكل الإسكندرية كان مقصودا، صحيح أن العشوائيات هجمت عليها كالجراد المتوحش، فأفسدت أحياء كاملة فيها، لكن «التديين» كان هو المطلوب، والتديين غير التديُّن، التديين حالة عصبية يسيطر فيها التقليد والنقل والحفظ والتزمّت وضيق الأفق على سلوكيات الإنسان، أما التدين فهو حالة عقلية يتحكَّم فيها العقل وحسن المنطق وحس النقد والبصيرة فى هذه السلوكيات. المهم كان تدهور «حالة الجمال» بالمدينة يُؤلم، وإن حافظت على بعض «خصائصها» التى عاشت عليها. لكن الحال المائل بها الآن يفوق خيال أى بائس يائس. ما كل هذه القمامة فى شوارعها وأحيائها، معقول مدينة الإسكندرية التى كان يمشى المرء فى شوارعها الشعبية يجدها «أنظف» من الصينى بعد غسيله، تتحول إلى مدينة من الروائح الكريهة حتى فى أكثر المناطق أناقة، عدا شارع واحد هو شارع الكورنيش حتى أكون منصفا. فهل يمكن لرئيس الوزراء أن يتجول سرا بالإسكندرية ليعرف حجم مأساة القمامة بها؟! هل يمكن لرئيس الجمهورية أن يفعلها، لعله يعيِّن لها محافظا بدلا من أن يتركها هكذا خاوية؟ وبعد جولة ليلية رأيت على شاطئ لافتة معلَّقة عن نشاط تحت رعاية السيد اللواء المحافظ، طارق المهدى، فقلت فى سرى: ربما كان محافظا سابقا!