عندما تطالع الشهادات السرية التى أدلى بها أركان نظام مبارك أمام المحكمة حول الأحداث التى صاحبت ثورة 25 يناير، وتم الإفراج عنها وتنشرها الصحف حاليا، لا بد أن تثير انتباهك ملاحظات عديدة حول مضمونها. أغلب الشهادات التى كان مسكوتًا عنها لقادة فى الجيش والمخابرات والأمن القومى، تتحدث أيضا مثلما تحدث حبيب العادلى ورجاله عن المؤامرة. كل قادة ورجال مبارك إذن كانوا يرصدون «المؤامرة» ويعرفون أن «أجندات» خارجية أرادت إحداث تغيير كالذى حدث فى تونس، وأنها دربت عناصر مصرية فى الخارج، واستعانت بعناصر أجنبية لمساعدتها فى تنفيذ مخطط الفوضى، لكن كل هؤلاء لم يقل بوضوح ماذا فعل بحكم مسؤولياته بعد هذا الرصد، إذا كانت مسؤوليته تنحصر فى حماية البلاد من مثل هذه المؤامرات. كثير مما ورد فى هذه الشهادات يكفى لمحاكمة أصحابها بتهمة التقصير الفادح الذى أدى إلى أضرار بالغة بالأمن القومى، ومحاكمة نظام مبارك كله باعتباره كان نظاما هشا تافها يعرف الأخطار ويرصدها ويمسك كل خيوطها، لكنه لا يتمكن من مقاومة هذه المخططات التى يعرفها سلفا، ويتركها تنفذ إرادتها. يتحدث أحد قادة الجيش السابقين عن المؤامرة والعناصر الإخوانية التى تحالفت مع عناصر فى الخارج لتمرير هذا وذاك، وعن الرئيس الذى لم يأمر بقتل المتظاهرين، وهو الرجل الذى «هندس» تفاهمات المجلس العسكرى السابق مع الإخوان وتحالف معهم، وفى عهد حكمه حصل الإخوان على كل مكتسباتهم القانونية والسياسية، من الحزب المعترف به إلى الفوز بانتخابات البرلمان ثم الرئاسة، هى إذن مؤامرة واضحة من اليوم الأول لكننا انحزنا للمؤامرة، وتباهينا بأننا وقفنا معها وحميناها، ووضعنا أيدينا فى أيدى المتآمرين، ووجهنا التحية العسكرية إلى شهداء هذه المؤامرة. يتحدث قادة كبار فى شهاداتهم على أن التوريث كان شائعة، لكن قادة أعضاء فى المجلس العسكرى السابق لهم تصريحات تليفزيونية تتحدث عن موقف الجيش من التوريث ووقوفه ضده، أحدهم وهو يصف دور أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى يناير قال: «لو لم تنجح هذه الثورة كانت رقابنا كلنا طارت -يقصد أعضاء المجلس العسكرى- أو كنا سنؤدى التحية لجمال مبارك». القادة الأمنيون موقفهم أصعب من أولئك الذين وجدوا أنفسهم فجأة ودون سابق استعداد فى أتون السياسية وتفاعلاتها، فانعكس ذلك على ارتباكاتهم وأسلوب إداراتهم. فما يقولون إنهم رصدوه هو جزء من عملهم، والتعاطى مع هذه الأخطار أيضا هو جزء من هذا العمل، لكننى لم أسمع أو أقرأ رئيس جهاز أمنى كبير يقول مثلًا: «رصدنا أبعاد المؤامرة وفشلنا فى التعامل معها»، لكنهم يحاولون إخراج الثورة من مضمونها بإيحاءات متتالية كونها مؤامرة، لم تكن لها أى دوافع حركت الغضب فى عقول المصريين، ولا يحاولون فى الوقت نفسه الاعتراف بمسؤولية مباشرة عن التقصير لو أرادوا أن يقتنع أحد بهذه الروايات. المدهش أن الجمهور الذى يتبنى هذه الروايات ويدافع عنها ما زال يخلع على رموز عصر مبارك الأمنيين صفات البطولة، فيصف رجلًا بأنه الصقر، لكن من شهادة الرجل نفسه فهو لم يكن صقرًا ولا يحزنون، بدليل أنه لم يستطع التعامل مع المؤامرة، وترك العملاء الأجانب والمتآمرين فى الداخل يمزقون البلاد. ويصفون آخر بأنه الرجل القوى، ومن شهادة هذا الرجل القوى نفسه تكتشف أنه عجز عن مواجهة المؤامرة التى من نص شهادته لم تكن مفاجأة، لكن خيوطها كلها كانت مرصودة، ولم يفلح كل ما تحت يديه من أجهزة ومعدات وقوات فى التصدى لها، واستسلم بعد ساعات قليلة للقوات المسلحة. هؤلاء لا تخوضوا معهم فى جدل الثورة أو المؤامرة.. هى مؤامرة إذن؟ مَن المسؤول عنها؟ ومن الذى لا بد أن يحاكم بتهمة التقصير؟ ومَن سيحاكم بتهمة الإهمال باعتباره علمًا ولم يحاول حماية البلاد؟ وهى تهمة توازى الخيانة العظمى أو أكثر قليلًا.