عندما تتأمل إحدى لوحات أو منحوتات الفنان التشكيلى المصرى الكبير، جميل شفيق، تحاول الانتقال من الإدراك والتلقى الجمالى إلى مرحلة الاستبصار الوجدانى والرؤيوى لمفردات هذا العالم المتخم بالأسرار المُلغزة، والتداخل بين خطوطه التى تتلاعب بالنور والظل، وتوزيعهما على فضاء لوحاته، تنتابك حالة من التوتر الجمالى والشغف بهذه الخطوط الدقيقة التى تبدو كأنها طرق على النحاس، وليست محض خطوط وتشكيلات وتركيبات من اللون الأسود الجليل الفخيم، وظلاله الفاتنة التى تلعب فى سحر النور الأبيض الذى يكتسب شخصية جديدة وروحا مغايرة عن مألوف الأبيض لدى هؤلاء الذين صاغوا وأبدعوا عوالمهم من ثنائية الأبيض والأسود. ينتابك سؤال: من أين يستمد هذا المصوّر فرادة عالمه؟ هل مِن نقر الخطوط الدقيقة على سطح اللوحة أم من مفرداته الأيقونية فى الوجوه والعلامات؟ أم فى كائناته المستمدة من الموروث الدينى أو الأسطورة التى تكتنف مفردات عالمه، أو تلك التحويلات التى يجريها على حضورها فى المخيال الدينى والتاريخى والحياتى إلى عالمه الأسطورى؟ ويضفى عليها أشكالا سحرية جديدة ومغايرة لما نختزنه فى ذاكرتنا ووعينا ولا وعينا عن هذه المفردات. إن قدرة جميل شفيق الإبداعية تتمثَّل فى تحويله القلم والحبر «الشينى» الأسود إلى الأداة السحرية فى نحت قلمى لمكوّنات اللوحة، بحيث تبدو حائرا ومتوترا جماليا، ويتحول فعل التلقى لديك إلى عملية إبداعية، وإلى حالة من الوجد، وسعى محموم لتفكيك الأسرار والألغاز التى تكتنف منحوتاته القلمية الدقيقة والعميقة والغائرة فى باطن الأسطورة والمحمولة فى مفرداته ووجوهه النسائية والذكورية، وخيوله الجامحة الصانعة لفضاءاتها الساعية للتحرر من أسطوريتها المسكونة فى أعماقها، أو أسماكه الخارجة من قداساتها الخاصة. أسلوب متفرد فى الرسم كما فى النحت، فى الأبيض والأسود، وفى صوره التى يستخدم فيها الأكليرك، أو ألوان الزيت، أو فى استخدام بقايا البحر الخشبية -طلع البحر- ليصوغ منها عوالمه من الأحصنة والوجوه الطالعة من وجوه الفيوم الأسطورية، ويحيلها إلى عالمه هو الحميمى والخاص، والذى لا يتشاكل مع سواه. جميل شفيق أحد الذين أضفوا على الأساطير والأيقونات المستمدة من الدينى والواقعى والتاريخى حيويتها المعاصرة، وينقلها ويحولها من الوعى والذاكرة البصرية والجمالية التاريخية إلى حياة جديدة خاصة ومعاصرة، ومن ثمّ ينقل الأيقونة والأسطورة من عالمها وتاريخها الخاص إلى عالم وحياة جديدة ومستمرة، ويُحملها دلالات مغايرة. رجل مسكون بمعنى الخلود والاستمرارية من الموروث الثقافى والجمالى التاريخى إلى الراهن والمستمر. ومن هنا تجد عالم السمكة الأيقونية المسكونة بغلالة «قدسية» يضفى عليها أصرة وجودية وكينونية فى علاقاتها بالإنسان، والملاحظ أنها تبدو كأنها شرط حياة وحضور للإنسان فى العالم. من هنا يبدو حضور السمك/السمكة الخارجة من الوعى الدينى المسيحى كمعجزة من المعجزات، وكعلاقة وحضور فى الإيمان قبل الصليب. عندما يستمد هذا الرمز/ الحضور/ الإيمان من موروثه فى الوعى الدينى التاريخى، يحوّله إلى حالة معاصرة تتحرك على خطوط تحول السمكة/الإنسان، والسمكة/المرأة، والسمكة/الرجل إلى تداخل كينونى مُحمّل بأسطورية تتلاعب بك من التاريخى، والدينى إلى الإنسانى والمستمر. خذ النساء الحاملات للأسماك فى أيديهن، أو على رؤسهن وكأنهن تحوَّلن من التاريخى إلى الحاضر، ومن اللحظة الأنية –لحظة التلقى- إلى التاريخى ومحمولاته على تعددها، وجوه النساء والرجال الحاملات للأسماك، أنهن وأنهم انتقلوا من الوجود الحى إلى الوجود الأسطورى المفعم بالمعانى والدلالات الجمالية والدينية والرمزية والتاريخية بل والمستقبلية. أجساد النساء والرجال تتداخل فى وشائج وُجدَّ وجمال وخصب وتجانس، بحيث لا يبقى منهم سوى الحضور الواحد فى الحياة، وفى الأسطورة، وبحيث يتجسدون كجوهر واحد وتجلى وكينونة وحياة فى الحياة وما وراءها. من أين تأتى ملامح الحزن المقدس التى تبدو على الوجوه والأجساد ذات الملامح المصرية المعذبة؟ نحن إزاء حزن نبيل، هذا الحزن الوجودى الذى يكشف عن مأساة الوجود الإنسانى كله تجرى فى خطوط وطرقات ونقرات الآلة القلمية وخطوطها السوداء لجميل شفيق. الطيور والأحصنة المنطلقة محمولة أيضا على الأسطورة -بعضها خرج منطلقا من بعض عوالم القديسين- لكنها تحمل فى أعطافها قداسة ما، وسعى يبدو محموما للتحرر من السجن الأسطورى وقيوده وحياته الخاصة، وإلى كسرها جميعها حيث تنطلق نحو حرية بلا حدود، وعالم بلا أصفاد، هل اللجوء إلى المصدر الأيقونى والأسطورى لوجوه الفيوم محاولة لتحويل وجوهه وشخوصه وكائناته الجميلة إلى أيقونات بها أثر السحر التاريخى، ومن ثم بناء وتشكيل سحره المعاصر الملغز؟ فى نحوته الخشبية -من خشب طلع البحر أو بقاياه- تكتسب المادة الخشبية التى يُشكّلها أو يرسم عليها من حياتها فى البحر وكائناته حضورا يبدو مغايرا، ويحولها جميل شفيق إلى كائنات تبدو فى سكونها وحضورها حية وحاضرة، وعلى فضائها تتجلى دينامية خاصة بها. بين نحت الخشب، ومنحوتاته القلمية تبرز ذات الأيقونات والأساطير مفعمة بالحيوية والحياة. فنان متميز فى عالمه وفضاءاته وتشكيلاته، وفى خريطة التصوير المصرى المعاصر، واستطاع أن يؤسس لحضوره الفنى والإبداعى فى دأب، ودونما صخب أو ادعاء، أو سعى وراء الإعلام، أو دوائر السلطة الثقافية والإعلامية الرسمية. تجاوزته جوائز الدولة الرسمية بتواطؤاتها وعلاقاتها المحمولة على الشبهات والظنون. ابتعد الفنان الكبير عن هذا العالم الذى فقد معناه ورمزيته وهيبته، لكن منذ متى كانت هذه الجوائز الرسمية حاملة لدلالة أكبر من واقعها. مزيد من الإبداع والجمال والحياة الجميلة يا أيها الرائع الجميل، جميل شفيق.