«مسافة السكة».. هذا الوصف استخدمه الرئيس المصرى الجديد عبد الفتاح السيسى، خلال حملته الانتخابية، لتأكيد العلاقة الوطيدة بين مصر والدول العربية، ولتأكيد الالتزام المصرى بأمن الدول العربية. وأشار السيسى تحديدا إلى أن القوة العسكرية المصرية ستوجد فى أسرع وقت ممكن بجوار تلك الدول حال تعرضها لتهديد يمس أمنها القومى. يعكس استخدام هذا المصطلح لتأكيد دور مصر الإقليمى، من خلال وظيفة حمائية، إدراكا لحقيقة التهديدات الكبرى التى تتعرض لها المنطقة والعديد من الدول العربية فى ظل محاولات إعادة ترتيب استراتيجية كبرى للأوضاع الأمنية والسياسية فى المنطقة، فى إطار السعى الأمريكى للتحول نحو شرق آسيا وتقليل الانخراط فى الشرق الأوسط. كما يعكس هذا المصطلح إدراكا من قِبل السيسى لحقيقة الأثر الانتشارى لمخاطر هذه التهديدات التى يبدو أنها حين تنطلق فى دولة عربية ما حاليا، سرعان ما تمتد عبر محيطها لتهدد بقية الدول، كما يبدو الحال فى ليبيا وسوريا حاليا بجلاء. كشفت تطورات السنوات الثلاث ونيف الماضية منذ نهاية عام 2010، حين اكتمل الانسحاب الأمريكى من العراق بالتزامن مع تفجر الانتفاضات الشعبية العربية التى وُصفت ب«ثورات الربيع» عن محاولات أمريكية لفرض تسويات وأوضاع، فى أكثر من ملف متفجر فى المنطقة، بما يتيح للولايات المتحدة انسحابا آمنا نسبيا منها، ولكن من دون مراعاة حقيقية بالضرورة لمصالح حلفائها فى المنطقة، أو لضمان استقرار دولها ووحدتها، أو حتى لإرادات شعوبها فى إحداث تحول ديمقراطى حقيقى. تجلى ذلك فى التقارب الأمريكى مع إيران من دون تنسيق حقيقى مع دول الخليج العربية، وفى إطلاق ماكينات تغيير فوضوية فى ليبيا وسوريا من دون أى مراعاة لتوفير أفق وأسس حقيقية لإعادة الاستقرار للدولتين، وأخيرا فى دعم محاولة تيار الإسلام السياسى فرض هيمنته الإقصائية على السلطة فى أكثر من بلد عربى، من دون توافر ضمانات حقيقية لالتزام هذا التيار بالقواعد والقيم الديمقراطية الأساسية. لكن يبقى سؤال مهم مطروح: هل تكفى «مسافة السكة» لتأسيس دور مصرى إقليمى راسخ وقادر على حماية المنطقة من التحديات الكبرى التى تواجهها؟ يلزم بداية تأكيد أن انتشار موارد القوة عبر دول المنطقة المختلفة وعدم تركزها فى دولة واحدة، يعنى أن دولة واحدة لا يمكنها الانفراد بقيادة المنطقة العربية فى المرحلة الراهنة، عبر أى أداة قوة منفردة حتى لو كانت الأداة العسكرية، بل إن من شأن أى محاولة مماثلة أن تكون مدمرة لما بقى من فرص تأسيس تنسيق عربى يواجه التحديات الجسيمة للمرحلة الراهنة. انطلاقا مما يحمله مصطلح «مسافة السكة» من مضامين، سنطرح فى ما يلى ملاحظات أولية حول دور القوة العسكرية فى توفير أسس بناء دور إقليمى جديد يضمن لمصر مصالحها وللمنطقة تجاوز التحديات الكبرى التى تهدد ليس فقط استقرارها، بل استمرار خريطتها الحالية فى المديين القريب والمتوسط. أولا، يمكن للأداة العسكرية فى أفضل الأحوال حاليا أن تكون فقط رادعا لتهديدات قادمة من الخارج، إلا أنه لا يمكنها بمفردها أن توفر أسس إحداث تغيير حقيقى وواسع المدى فى العوامل العميقة المتجذرة فى الجوار المصرى -فى الشرق الأوسط أو إفريقيا- والمغذية لتلك التهديدات، مثل الإرهاب أو الأطماع الإقليمية من بعض دول الجوار أو التدخل الخارجى السلبى والساعى لتقويض وحدة بعض دول المنطقة واستقرارها. تقتضى مواجهة تلك التحديات تعبئة مصادر قوة أخرى، اقتصادية وثقافية واجتماعية، من قَبل أى محاور تسعى مصر لتأسيسها لمواجهة مصادر التهديدات الخارجية أو تبعاتها الداخلية. ثانيا، استخدام الأداة العسكرية خارجيا بات يستلزم موارد ضخمة جدا، غير متاحة لمصر حاليا، مما يجعل أى تدخل مصرى عسكرى إقليمى رهن بتوافق إقليمى مع القوى الأخرى الرئيسية فى المنطقة التى تمتلك هذه الموارد. ولا يمكن فى الواقع ضمان هذا التوافق فى كل الحالات التى قد تكون فيها مصالح مصرية مهددة بشكل جوهرى. ثالثا، بالنظر إلى التباين القائم فعليا تجاه بعض الملفات الإقليمية بين مصالح مصر ومصالح بعض الدول الخليجية الأكثر تقاربا مع مصر حاليا، وكذلك التباين فى سلم أولويات تلك المصالح، فإنه يتعين أن تسعى مصر بالإضافة إلى تأسيس رؤية كلية توافقية مع القوى العربية الرئيسية تجاه هندسة الشرق الأوسط، إلى بناء محاور إقليمية أخرى فى دوائر مصالحها الرئيسية، خصوصا فى اتجاه الجنوب والغرب، وعدم التعويل على محور واحد فقط فى الشرق. رابعا، تأسيس هذه المحاور لا يمكن أن يتوافر له الحد الأدنى من الاستقرار والديمومة بالاستناد إلى القوة العسكرية فقط، أو حتى بِعدّ الأداة العسكرية والوظيفة الحمائية الركيزةَ الأساسية لدور مصر فى تلك المحاور. تحتاج الدولة المصرية إلى صياغة مشروع تنموى كبير ومتعدد الجوانب تتكامل فيه احتياجات التنمية ومتطلباتها فى مصر مع متطلبات التنمية فى هذه الأقاليم الفرعية المختلفة، خصوصا حوض النيل وشمال إفريقيا. وفى الواقع فإن دوائر مصر الإقليمية تذخر بالفعل بمشاريع تنموية عدة متنافسة، وإذا لم تسع مصر إلى تقليل حدة هذا التنافس التنموى فإن أى جهد لإعادة تعبئة موارد المحيط الحيوى لمصر، لمواجهة أى تحديات، لن يكون فاعلا أو مستداما.