جاءت شهادة المخرج السورى الكبير محمد ملص عن الثورة السورية متأخرة إلى حد كبير، ربما يرجع ذلك إلى أسباب تمويلية، فى كل الأحوال، أن تأتى متأخرا أفضل من أن لا تأتى أبدا. «سُلّم إلى دمشق» الذى شاهدته مؤخرا فى قاعة زاوية، هو الفيلم الروائى الطويل الرابع لملص بعد أفلامه الهامة: «أحلام المدينة» و«الليل» و«باب المقام»، حصل مخرجنا أخيرا على تمويل لبنانى قطرى سورى ليقدم رؤية حداثية حرة لا تخلو من الملاحظات، عنوانها هو تمجيد فكرة الحرية، وإدانة القهر والخوف، ونهايتها وضع الأمل فى جيل جديد شاب يدافع عن أحلامه قبل أن يدافع عن وطنه، الانحياز صريح رغم بعض المباشرة، ورغم كثير من التبسيط فى العرض والتحليل. أذكر أننى كنت أشاهد ملص كثيرا فى مركز الثقافة السينمائية منذ سنوات طويلة، كان وقتها مقيما فى القاهرة، ذات مرة أصر على أن يقدم لنا بنفسه فيلم زميله وصديقه المخرج أسامة محمد، كان الفيلم بعنوان «نجوم النهار»، واجه الفيلم مشكلات فى عرضه بسوريا، سألت ملص يومها عن سرّ تلك الصفعات التى تتكرر فى أفلامه، وفى أفلام زميليه الكبيرين: عبد اللطيف عبد الحميد وأسامة محمد، ابتسم ابتسامة ماكرة، وقال لى: «يوم أن تتوقف هذه الصفعات فى الواقع، لن تراها أبدا فى أفلامنا»، فهمت المعنى، كان ذلك قبل أن تؤدى الصفعات إلى ثورة. أفلام ملص عموما عنوانها العريض هو إعلان الحرب على القهر. التجلّى الأهم للفكرة كان فى أول أفضل أفلامه فى رأيى، «أحلام المدينة» قدم أحد أفضل هجائيات السلطة الأبوية والديكتاتورية فى العالم العربى، الحفيد والأم يتعرضان طوال الوقت للقهر المعنوى والبدنى من عجوز خارج الزمن والتاريخ. فى فيلم «الليل» استكمال للفكرة بطريقة أخرى مع تنويعتها الساخرة على الحكم العسكرى. أما «باب المقام» فهو مأخوذ عن حادثة حقيقية، امرأة من حلب قتلها أهلها لمجرد أنها تغنى، تغيّرت حلب، مثلما تغيّرت حياتنا، انتهى بنا القهر إلى حوادث عبثية لا يمكن تصديقها. الديكتاتور السياسى أفرز ديكتاتوريات صغيرة فى كل بيت، أو لعل التركيبة الأبوية للمجتمعات العربية هى التى رسّخت الحكم الديكتاتورى، حلقة جهنمية مغلقة تماما. السرد فى «سُلّم إلى دمشق» حرّ ومحلّق، ليس هناك البناء التقليدى الكلاسيكى، تقريبا نحن أمام فيلم حالات وشخصيات، الثورة فيه هى خلفية المشاهد. نسمع طوال الوقت فى مشاهد دمشق أصوات الطائرات وطلقات الرصاص والانفجارات، ننتقل فقط بين مدينتين: طرطوس، والعاصمة دمشق أو الشام كما يطلقون عليها. بالأساس الشخصيات شابة، من جيل الإنترنت، ولكن هناك أيضا نماذج أقل من أجيال أكبر. جميع الشخصيات خائفة أو مكسورة أو مهزومة. هناك خيط رفيع يمسك بالعقد: غالية فتاة شابة جاءت من طرطوس إلى دمشق لكى تدرس الفن، فؤاد صديقها عاشق السينما وزميلها بالمعهد يأخذها للإقامة فى منزل تسكنه شخصيات تمثل سوريا بكل مناطقها وطوائفها، معظمهم من الفنانين. «سُلّم إلى دمشق» يجعل من الثورة حلما بالحرية لمجموعة من الفنانين المحاصرين. غالية هى أول الخيط، سكنتها روح فتاة غرقت فى طرطوس، الفتاة اسمها زينة، عاشت غالية حياة زينة، وحياتها الخاصة معا، تظهر زينة لها فى بيت دمشق، كأن الأجيال المقهورة تكرر مأساتها بلا توقف. والد زينة تم اعتقاله لمدة 17 عاما، أما والد غالية فهو عسكرى متقاعد، وظيفته الحالية إنقاذ الذين حاصرتهم الأمواج، ولكن المنقذ أصبح فى حاجة إلى إنقاذ، توهّم والد غالية أنه سيحرر فلسطين، وكل البلاد العربية، وانتهى قابعا يشرب فى صحة البحر. أم غالية لم تحقق أى حلم، لم تكمل تعليمها، لها ابن هاجر إلى باريس، وابن آخر قبضوا عليه. غالية التى تؤمن بمقولة ابن حزم: «المثل فى مثْله ساكن»، لا تستطيع أن تتخلص من روح زينة إلا بحب فؤاد، هو أيضا هارب من واقع مرير، إلى فضاء الأفلام، أطلقوا عليه اسم سينما، أهداه والده كاميرا لتصوير الثورة، يقول فى أول مشهد: «من يستخدم الكاميرا يقتلونه». فى البيت نحاتة تنحت تمثالا لرجل يرفع رأسه بين كفيه وراء قضبان زنزانة، ومفكر اسمه زرزور لا يطير ويعيش خلف ناموسيته، وملاكم فلسطينى لا يتوقف عن تسديد لكمات افتراضية، ورجل اعتقل وترك حبيبته ثم عاد ثائرا، لم يكن الفيلم فى حاجة إلى أن يصرخ أبطاله بعبارة «حرية» وهم يصنعون سلما إلى السماء. كان الفيلم بحاجة إلى بعض التكثيف، ربما تجاوز واقع الثورة السورية المعقد مجرد فكرة الهتاف باسم الحرية. جاء أداء الممثلين أيضا أقل كثيرا مما تحتاج إليه هذه النوعية من الأفلام، لكنك لن تنسى أبدا صورة المنزل/ الوطن المنعكس مهتزا فى الماء، ولا تحية ملص لعمر أميرالاى والماغوط وونوس. لم تفقد عين المخرج الكبير رؤيتها الذاتية المؤثرة، قرر أن يحارب القهر والخوف بالسينما. فى الفيلم بعض التبسيط، ولكنه يقول بوضوح: إن الفنان لا يمكن أن يكون إلا فى الشارع ومع الثائرين.