عندما ظهرت مجموعة «أرخص ليالى» للكاتب والطبيب الشاب يوسف إدريس عام 1954، استطاعت أن تحدث دويا حقيقيا، وبلا أدنى مبالغة انقسمت الحياة الثقافية إلى فريقين تجاه ما يكتبه هذا الشاب اليسارى، وكان أكثر الناس احتفالا بالكاتب هم رفاقه، الذين وقفوا بجواره فى صفوف النضال الوطنى فى مواجهة القصر والإنجليز والأحزاب المفلسة سياسيا، ولا تستطيع أن تقدم شيئا للشعب المصرى، وكان يوسف إدريس ينتمى إلى منظمة يسارية اسمها الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى «حدتو»، وكان معه فى هذه المنظمة زملاء الكليّة صلاح حافظ ومحمد يسرى أحمد وإبراهيم فتحى وغيرهم، وكان يوسف إدريس يخرج على رأس المظاهرات فى مواجهة البوليس فى ذلك الوقت، وفى الوقت الذى كان يشارك فيه فى العمل السياسى، كان يكتب القصة القصيرة، وينشر قصصه فى مجلة «القصة» و«قصص للجميع» و«روزاليوسف» و«المصرى» و«الكاتب» و«الملايين» وغيرها من الصحف والمجلات الطليعية التى كانت تصدر فى ذلك الزمان، وعندما صدرت مجموعته الأولى عام 1954، وكان ما زال فى السابعة والعشرين من عمره، احتفلت الحياة الثقافية احتفالا نقديا وثقافيا كبيرا، وراح اسمه يزاحم الأسماء الكبيرة، وراح يمثل مصر فى المؤتمرات الأدبية العربية الكبيرة، وذهب بعد صدور مجموعته مباشرة إلى المؤتمر الذى انعقد فى دمشق، الذى كان مدعوا فيه بجوار الكتّاب الكبار فى العالم العربى، وبعد عودته أوشى به البعض إلى السلطات السياسية، فتم القبض عليه، وأودع فى السجن حوالى العام، وخرج فى أواخر عام 1955، لتصدر مجموعته الثانية بتقديم عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، الذى كان اسمه لا يضارعه اسم آخر فى التأثير الفكرى والثقافى على الحياة الأدبية، ورغم أن الدكتور طه حسين هو الذى طلب من يوسف إدريس أن يكتب مقدمة المجموعة، كما قال إدريس ذلك فى الطبعة الثالثة من المجموعة فى حياة طه حسين، فإن هذه المقدمة لم تخل من تقريع لإدريس ومؤاخذات حول اللغة العامية التى لا تروق للعميد فى الكتابة القصصية، وكانت هذه المؤاخذات إشارة قوية إلى خروج البعض من حجرات صمتهم، وليعلنوا عن تذمرهم بوضوح من يوسف إدريس وقصصه ومسرحياته ورواياته، وكان هؤلاء الذين انتقدوا يوسف إدريس يتميزون غيظا من هذا المارد، الذى خرج فجأة، ليعلن عن كاتب جديد بكل المقاييس، وعلى مستوى اللغة والتقنيات والموضوعات والإمتاع، دون أدنى إملال للقارئ، فضلا عن الغزارة التى كان يكتب بها إدريس، وتجد هذه الكتابات طريقها السريع إلى النشر، لذلك راح اليمين الثقافى يوجه ضربات ناعمة أو خشنة إليه، وكان من بين هؤلاء الكاتب «الوجودى» أنيس منصور، الذى تتلمذ فى مدرسة مصطفى وعلى أمين الصحفية، وكان يكتب فى مجلة «آخر ساعة»، ويترجم أقاصيص وموضوعات من الآداب العالمية، ثم راح يشرف على صفحات الأدب والثقافة فى جريدة «الأخبار»، وانتهز منصور صدور مجموعة يوسف إدريس الثانية «جمهورية فرحات»، التى كتب لها طه حسين المقدمة، وبعد هذه المجموعة صدرت مسرحيتان فى كتاب واحد، وعند ذلك تجرأ منصور على انتقاد يوسف إدريس، لكن بطريقة لا يخلو ظاهرها من النعومة، لكنها تنطوى على خشونة واضحة، لا تخفى على القارئ، ويكتب منصور فى باب «أخبار الأدب» فى جريدة «الأخبار» الصادرة فى 17 مايو عام 1957، وتحت عنوان لافت هو: «هذه المحاولة لم تنجح...»، ويبدأ مقاله: (لا بد أننى وغيرى حريصون على ما يكتبه يوسف إدريس، لأننا نرى فيه فنانا، وقد كنت أول من احتفل بمجموعته الأولى فى الصحف وفى الإذاعة، وأول من سخط على مجموعته الثانية وعلى الرواية الأولى التى كتبها واسمها «قصة حب»، فهى ليست رواية، إنما خليط بين الأقصوصة والمقالات والملصقات الإعلانية، وقد جاءت كالطفل الذى نبت له شارب وراح يصرخ ويهتف ليصبح صوته غليظا كالرجال، مع أن الرجولة نمو فى الوظائف وتجارب وزمن، وأخيرا ظهرت مسرحيتان ليوسف إدريس هما «جمهورية فرحات»، وكانت فى الأصل قصة قصيرة، ومعها ظهرت مسرحية «ملك القطن» ولا أعرف إن كانت فى الأصل قصة قصيرة، أو أنها ولدت هكذا، ويؤسفنى أننى لم أشهد المسرحيتين فى الأزبكية، فأرى كيف تعاون الممثل والمخرج على فهمها وإقناع الجمهور بها)، ويستطرد منصور فى سرد وقائع المسرحيتين بطريقته الخاصة التهكمية، مثل: (و«ملك القطن» هذه! -التعجب من عندنا- تعالج القطن ومن يزرعه، ومن يملكه ومن يشتريه، ومحور المسرحية طبعا! -التعجب من عندنا كذلك- هو الصراع بين المالك والمستأجر، وحول هذه المشكلة تطايرت عبارات وأفكار أخرى كما يتطاير التراب عندما يسقط عليه الماء، وفى المسرحية بلادة فى الحوار)، وهكذا وهكذا يفرغ أنيس منصور كل ما فى جعبته دفعة واحدة، واللافت للنظر أن أنيس منصور لم يتطرق إلى اثنين من أعلام النقد والثقافة والمسرح فى ذلك الوقت، وهما اللذان قدما للمسرحيتين الصادرتين فى كتاب واحد، وهما أحمد حمروش والدكتور على الراعى، وقد احتفلا أيما احتفال بمسرحيتى يوسف إدريس، لكن الغرض مرض، وتمضى الأيام وتذهب كلمات وتهكمات أنيس منصور أدراج الرياح، وتبقى علامة يوسف إدريس القصصية العبقرية قائمة ومشرعة فى وجدان أجيال متتابعة حتى الآن.