وضعنا الفيديو الصادم للتحرش الجماعي في جامعة القاهرة وردود الفعل المتباينة حوله في مواجهة حقيقية أمام أنفسنا وأفكارنا وازدواجية معاييرنا بين فكر متزمت يتغلغل في (لاشعورنا) وبين إدعاءات بالتفتح والتمدن واحترام المرأة في مجتمعنا .. وضعنا هذا الفيديو بشكل واضح أمام السؤال : "هل المجتمع المصري فعلا يرفض التحرش" هل يمكن لمجتمع يؤمن إيمانا قاطعا بأن صوت المرأة عورة وشعرها عورة وحتى مناخيرها يمكن أن تكون عورة .. وأنها تصبح زانية (كدهو خبط لزق) إذا شم عطرها رجل أجنبي .. هل يمكن لمثل هذا المجتمع أن يشعر بأي رفض حقيقي لظاهرة التحرش .. في عرف المجتمع وطبقا للفكر المتشدد الذي تم غرسه داخل الجميع (واعتباره من صميم الدين) فإن مجرد خروج المرأة متعطرة يجعلها تمارس الزنا .. فهي المسؤولة عن الفتنة التي تنشرها من حولها .. وهي التي تدغدغ مشاعر الرجال وشهواتهم وبالتالي هي التي تتحرش بالرجال وكل ما يفعله المتحرشون هو مجرد رد فعل بسيط للغواية الآثمة التي تمارسها. التحرش في حد ذاته مهما تظاهرنا (كمجتمع) أننا نرفضه لن يكون مرفوضا بشكل صريح إلا إذا أعدنا غربلة ومناقشة كثير من المصادر الذي أصبحت تسكن في خانة (المقدس) رغم أنها لم ترد في القرآن الكريم .. بل وصلتنا عبر روايات ومصادر تبعد عن بيئة الصحابة الأجلاء ومجتمع المدينة بمئات السنين وتحولت في تراث الفكر الإسلامي إلى مقدسات بسبب التحفظ والتشدد في منع نقد ومناقشة وتحقيق كثير منها وإخضاعه لموازين العقل والمنطق والجوهر الذي يظهر في أصل العقيدة الإسلامية التي تساوي بين الرجل والمرأة أمام الله في العبادات والشرائع مهما حاولت المجتمعات القديمة أن تسبغ قيودا إضافية على المرأة باسم الشريعة أو الإسلام . يحلو لمشايخ التشدد ترديد رواية عن الصحابي الجليل الزبير بن العوام الذي تنكر وتحرش بزوجته ليمنعها عن الذهاب لصلاة الفجر في الجامع .. الرواية ترد في كتاب عيون الأخبار للمؤلف: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276ه) وأنقل الحكاية كما جاءت في طبعة دار الكتب العلمية ببيروت .. يقول الدينوري عن السيدة عاتكة: "فكانت تخرج باللّيل إلى المسجد ولها عجيزة ضخمة ؛ فقال لها الزّبير: لا تخرجي؛ فقالت: لا أزال أخرج أو تمنعني، وكان يكره أن يمنعها، لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله؛ فقعد لها الزّبير متنكّرا في ظلمة اللّيل، فلما مرّت به قرص عجيزتها؛ فكانت لا تخرج بعد ذلك؛ فقال لها: مالك لا تخرجين؟ فقالت: كنت أخرج والناس ناس، وقد فسد الناس فبيتي أوسع لي" طبعا ليس لنا أن نسأل الدينوري الذي عاش بعد أكثر من 200 سنة من وفاة أبطال القصة عن التواتر الذي روى له مثل هذه الحكاية العجيبة عن (تحرش صحابي جليل بزوجته) ليحتال على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم منع النساء من المساجد .. وعلى لسان من تمت رواية الحكاية .. هل الصحابي هو الذي رواها بكل ما فيها من ألفاظ خادشة للحياء رغم أنها تهدد بفضح حيلته وبالتالي تعود زوجته إلى الخروج ليلا للصلاة .. أم روتها الزوجة بعد أن اكتشفت الخدعة .. وهل يمكن لصحابي تصفه الرواية بأنه كان شديد الغيرة على زوجته أن يروي للآخرين وصفا لعجيزتها الضخمة وأنه تنكر ليتعرض لها في الطريق و"يقرصها في عجيزتها". طبعا مشكلتنا في التعامل مع مثل هذه النصوص أنها تحولت مع تحجر الفكر ورفض النقد ووضع القيود إلى جزء من تراث مقدس .. يعاني منكره من اتهام بأنه منكر لما هو معلوم من الدين بالضرورة. ومهما حاولنا الإدعاء بأننا نحترم المرأة ونتفهم دورها ومكانتها في المجتمع فإننا لا نستطيع الفكاك من وصفها بالزانية إذا شممنا عطرها أو العاصية إذا كانت قد اختارت أن تحتشم في زيها دون أن تغطي شعرها مثلا.. وتبقى المفارقة الوحيدة المؤسفة التي يسجلها مجتمعنا وهو يغوص في حالة التشدد الفكري .. أن التحرش هو العدالة الوحيدة التي يتم توزيعها على جميع النساء تتساوى في ذلك من تضع العطر ومن تضع النقاب.