علي مدار العصور، ارتبط الإنسان بالمكان، يغادر الإنسان ويبقي المكان، بعض الأماكن تخلق داخل نفوسنا شيئاً من الحميمية والاطمئنان، وبعضها يخلق بيننا شيئاً من الفتور، فإما أن تتقارب الكراسي بجانب بعضها البعض أم تتباعد. الكرسي موجود طوال الأزمنة، نحن الذين نشكله بحجمه ولونه وشكله، وكل منا يختار ما يحلو له للجلوس عليه، ويحدد مدة جلوسه الزمنية ووقت مغادرته، سواء بعد دقائق أو ساعات. ولكن هناك كرسي مختلف عن كل الكراسي مهما علت أرجلها، فلا نستطيع أن نطول الجالس عليه أو نقصيه. وهذا الكرسي إما أن يفرض علينا أم نختاره بإرادتنا. هناك كرسي فرض علينا لعقود، لم نختره، في البدايات الأولي كان صاحبه أقرب إلينا ومع مرور الوقت أخذت أرجل الكرسي ترتفع ، تعلو من علي سطح الأرض، إلي أن حلق في الأفق البعيد، آخذاً من يجلس عليه منفصلا عنا . سنوات طوال مضت، نقهر، نستغيث، جروحنا تنزف، نموت كمداً، لا أحد يسمعنا إلي أن اهتدي الألم وهو القاسم المشترك داخلنا إلي وسيلة ، تنزل هذا الكرسي من الأعالي، رصصنا أجسادنا واحداً تلو الآخر، رأسياً فوق بعضها البعض، لنخترق الأفق، فأنزلنا الكرسي، لنعيده إلي الأرض بمن هو عليه.وكان أول انتصار لجراحنا ولحظة أبعد من أحلامنا. وكان لنا أن نختار شخصاً آخر، لنجلسه علي الكرسي عن طيب خاطر، متوسمين به الخير بعد رحلة شاقة من المعاناة. حقيقة جلس بجانبنا، هدأ من روعنا، سمع منا، وعدنا وعاهدنا، استبشرنا خيراً، لنكتشف بعد مرور الوقت وبمدة زمنية قصيرة، أننا غيرنا الشخص واسمه، ونسينا أن نغير الكرسي نفسه، فبدأ يأخذه، يرتفع به شيئاً فشيئاً يعلو به من علي سطح الأرض ومع كل علو كانت تتساقط مطالبنا وأمانينا حتي المحدود منها من قبضة يده، لتتناثر أشلاؤها في الهواء، نسيناها لتتصدرنا مطالب أخري أكبر وأعمق، هل هذا الكرسي اللعين بأعيننا والساحر بعينيه والمؤثر الذي أبعده عنا، أنساه الهدف الذي جاء من أجله، فلم يعد يسمعنا، ربما الغبار الكثيف المنبعث من حركة أقدامنا المسرعة، غير المنتظمة. المتوترة علي الأرض، أعاقت رؤيته لنا، أم أن إحساسه العالي بالتفرد أبعده عنا، أما أن الجو العليل بسحره بالأعالي جعله ينعم، فأصابته السكينة والاسترخاء، لمنعه من النزول إلي الأرض بزحامها وضيقها وحرارة أجوائها المنبعثة من آهاتنا، فآثر السلامة والبقاء في الأعالي، لكنه استطاع عالياً أن يصافح بعض الجالسين علي الكراسي التي تشبه كرسيه الوثير ممن هم من وراء البحار، وتناسي أن تلك الكراسي ليست مسحورة، فلا تعلو بأصحابها، بل تظل قريبة من الأرض وممن هم عليها بل كل ما يعلو نظرة وطموحات الجالسين عليها، ليستطلعوا برؤيتهم آفاق المستقبل البعيد، من أجل خلق مكانة مميزة لقبيلتهم وسط القبائل. كل هذا يسير في ظل قهرنا وانتهاك حرماتنا وحيرة قلوبنا وقلقنا، كل ما نفعله أن نخرج من بيوتنا إلي ميدان التحرير، ومن التحرير إلي بيوتنا وليس من مجيب. ياتري ما هذا الكرسي الساحر والعجيب، الذي يأخذ الجالس عليه بعيداً؟ فلم نعد نسمع له صوتاً، سوي همهمات غير واضحة وجمل مقتضبة. كنا نعتقد أن الكرسي هو الكرسي نفسه، والجالس عليه هو الذي يشكله حسبما يري، ولكن اكتشفنا أن هذا الكرسي الساحر هو الذي يغير الجالس عليه ويشكله حسبما يشاء. هل يعرف الجالس عليه ماذا يجري له وبماذا يحس، لاندري.. اين هو، وماذا يفعل، فليخبرنا ماذا يري في الأعالي. ربما هناك أشياء لا نراها نحن، ويحس بأحاسيس لا نعرفها نحن، أم أنه يتعرض لضغوط لم يخبرنا بها، أم أن هناك قوي خفية تؤثر عليه، لا يعرفها هو ولا نعرفها نحن. هل يحل لنا لغز هذا الكرسي ويريحنا من تساؤلاتنا وقلقنا، ماذا ينتظر؟ نحن لا نستطيع الصعود إليه، فلينزل إلينا من الأعالي، يخبرنا عما يراه، فنحن نمر في مرحلة حرجة وراهنة من تاريخنا، فالعقود التي مضت ننحيها جانباً، والشهور القليلة القادمة هي الأهم والتي ستتحكم بمصير هذا البلد ومصائرنا لعقود قادمة وقادمة. فقد وصلنا إلي نتيجة، بأنه لا فائدة بأن نغير الأشخاص الذين يجلسون علي الكرسي بل كان علينا أن نغير الكرسي، نفسه، فهو الذي يعلو بهم، فعلينا حتما الأيام القادمة، أن نصنع سياجاً وأربطة حول هذا الكرسي، محكمة، نثبته علي الأرض، نتحكم