في فترة عصيبة تتطلب أن نتكاتف فيها جميعاًً كمصريين مسلمين ومسيحيين، هالني ماقرأت وسمعت من فزع وتوتر وخوف من جماعة الإخوان المسلمين - وإن كنت أتفهم هذا- خاصة وهي جماعة ظلت تحارب وتشوه صورتها مايزيد علي ستين عاماً دون منحها فرصة للدفاع عن نفسها أو حتي الرد لما يفتري عليها به. رأيت أن أوضح موقف الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله - مؤسس جماعة الإخوان المسلمين -حيث إنه منذ سبعين عاماً كتب في رسالته "نحو النور" وتحت عنوان " الإسلام يحمي الأقليات ويصون حقوق الأجانب" ما نصه: يظن الناس أن التمسك بالإسلام وجعله أساساً لنظام الحياة ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة، وينافي الوحدة بين عناصر الأمة وهي دعامة قوية من دعائم النهوض في هذا العصر. ولكن الحق غير ذلك تماماً فإن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها قد احتاط لتلك العقبة وذللها من قبل، فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل علي النص الصريح الواضح الذي لا يحتمل لبساًًًَ ولا غموضاً في حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص:{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} (الممتحنة :8). فهذا نص لم يشتمل علي الحماية فقط، بل أوصي بالبروالإحسان إليهم، وإن الإسلام الذي قدس الوحدة الإنسانية العامة في قوله تعالي:{يأيها النّاس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} (الحجرات:13). ثم قدس الوحدة الدينية العامة كذلك فقضي علي التعصب وفرض علي أبنائه الإيمان بالرسالات السماوية جميعاًً في قوله تعالي:{قولوا آمنا بالله وماأنزل إلينا وماأنزل إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) فإن آمنوا بمثل ماآمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137) صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون} (البقرة:136-138). ثم قدس بعد ذلك الوحدة الدينية الخاصة في غير صلف ولاعدوان،فقال تبارك وتعالي:{إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} (الحجرات:10) هذا الإسلام الذي بني علي هذا المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سبباً في تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط. وقد حدد الإسلام تحديداً دقيقاً من يحق لنا أن نناوئهم ونقاطعم ولا نتصل بهم ،فقال تعالي بعد الآية السابقة:{إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا علي إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}(الممتحنة :9). وليس في الدنيا منصف واحد يكره أمة من الأمم علي أن ترضي بهذا الصنف دخيلاً فيها وفساداً كبيراً بين أبنائها ونقضاً لنظام شئونها. ذلك موقف الإسلام من الأقليات غير المسلمة، واضح لا غموض فيه ولا ظلم معه، وموقفه من الأجانب موقف سلم ورفق استقاموا وأخلصوا،فإن فسدت ضمائرهم وكثرت جرائمهم فقد حدد القرآن موقفنا منهم بقوله:{ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ماعنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118)هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم} (آل عمران:118-119).وبذلك يكون الإسلام قد عالج هذه النواحي جميعاً أدق علاج وأنجعه وأصفاه. وتطبيقاً لهذه التعاليم والمنهج الذي تربي عليه الإخوان آتي بمثل من الرعيل الأول د. حسان حتحوت رحمه الله في كتابه القيم العقد الفريد "عشر سنوات مع الإمام البنا" حيث كتب د/حسان حتحوت: عرف عني اهتمامي بحسن العلاقة بيننا وبين الأقباط..اهتماما جعل بعض الإخوة مثل مصطفي مؤمن وسعيد رمضان يسمونني الأب حسان، صارحني الأستاذ البنا بأنه يحمل نفس الأفكار وأنه سعيد لأن أحد تلامذته حريص عليها هذا الحرص، كذلك أذكر أننا برئنا من العصبيات المذهبية ، وكان - رحمة الله عليه - عضواً في جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية التي تمثل الجميع بمن فيهم إخواننا الشيعة، ولواستمرت لكان من ورائها خير كثير ولكن تقلبات السياسة فيما بعد عصفت بها. كنت تلقائيا الأخ المرشح للذهاب إلي الجمعيات المسيحية لإلقاء المحاضرات،فكنا نخرج متحابين متعانقين وكان طلبة الإخوان بكلية الطب كل عام يدعون لمؤتمر احتفال بذكري ميلاد المسيح عليه السلام يشترك فيه خطباء من زملائنا الأقباط في مودة صادقة،وخرجت من بينهم بصداقات خالصة لولا أن باعدت بيننا الأيام بعد ذلك، وقد نشرت مرة في مجلة الإخوان خطاباً بعنوان "أخي جرجس " رد عليه آنذاك القمص سرجيوس من أقطاب الأقباط في مجلته بخطاب مماثل يبادل المودة بالمودة ويؤكد حسن الصلة.ولم يكن ذلك موقفاً فردياً لي ،بل كان سياسة الإخوان..وعندما كان المرشد يلقي درس الثلاثاء كل أسبوع كان من الحضور المنتظمين الأستاذ لويس فانوس عضو مجلس الشيوخ ومن زعماء الأقباط.وعندما نقل (بنية النفي ) الأستاذ المرشد إلي قنا بالصعيد (كان مدرساً بمدرسة ابتدائية بوزارة المعارف ) وبدأ هناك نشاطه ، كان من الحضور من قسس الكنائس.وعندما ألف الإخوان لجنة استشارية للاستئناس برأيها في ضبط سياستها كان من أعضائها الأستاذ وهيب دوس من كبار المحامين.وعندما رشح الأستاذ البنا وبعض الإخوان أنفسهم في الانتخابات البرلمانية كان بعض وكلائهم في اللجان الانتخابية من الأقباط. وهناك واقعة طريفة في هذا الموضوع ،فقد نشرت الأهرام في أثناء إحدي المعارك الانتخابية بياناً للدكتور أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء يندد بالتعصب الديني ويحذر الناس من الذين يتخذون الدين ستاراً للأطماع السياسية غير مبالين بإثارة النعرة الطائفية بين عنصري الأمة ويدعو إلي تماسك المسلمين والأقباط ليكونوا يداً واحدة ضد المفرقين والمتعصبين، وكان بطبيعة الحال يشير للإخوان.ولسبب لا أذكره استدعي الطالب سعيد رمضان في ذلك اليوم للقاء أحمد باشا ماهر في رئاسة الوزراء ،وكان عنده محمود فهمي النقراشي باشا الرجل الثاني بعده في الوزارة وفي الحزب السعدي.. وخلال المناقشة قال النقراشي باشا لسعيد :"مش عيب عليكم تبقوا إخوان مسلمين وتختارون للوكالة عنكم ناس أقباط؟"وأجابه سعيد : "يظهرياباشا إنك لم تقرأ بيان دولة ماهر باشا في الأهرام اليوم". ولهذا ففي كل مرة كان الإنجليز يحاولون فركشة حركة وطنية بافتعال حادث أو إحراق كنيسة مثلاًً، لم تكن التهمة تتجه إلي الحركة الإسلامية (الإخوان في ذلك الوقت) وكان من السهل إيقاظ الوعي بأن هذا ترتيب استعماري خارجي. ويقول د/حسان: من الأستاذ البنا رحمه الله تعلمنا الركائز الإسلامية لعلاقات المودة بين عنصري الأمة. وأن الإنسان غير مطالب بالتخلي عن إسلامه ثمناً للعلاقات الطيبة ، وبأن من صالح الأقباط أن يشاركوا في مصر مسلمين يعرفون ويحفظون تلك التعاليم، وبأن شريعة الإسلام لا تفرض علي أهل الكتاب أي شيء يخالف دينهم وكتبهم ،وإنما يستثنون من ذلك إن وجد ،وبأن الجميع سواء في الحقوق والواجبات (لهم مالنا وعليهم ماعلينا ) ومتساوون أمام القانون.وبأن الرسول - صلي الله عليه وسلم - أوصي خيراً بأقباط مصر بالذات. وبأن أحكام الجزية غير واردة لأنها مثل ضريبة البدلية (التي عرفناها في مصر إلي عهد قريب للمسلمين و الأقباط) هي رسم مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية،ومادام الأقباط والمسلمون الآن سواء في الجندية ، فالحديث عنها غير ذي موضوع.. و أن أبا عبيدة رد علي أهل حمص جزيتهم عندما قرر الجيش المسلم الانسحاب فلم يعودوا مدينين بثمن الحماية العسكرية. هذا تعلمناه في الأربعينيات..وبقي معي إلي أن كنت أستاذاً بالجامعة في مناخ امتد أثر التعصب فيه إلي الامتحانات ومن الجانبين. كنت كالقاضي يحكم بالعدل وأقدر الدرجة حسب المعلومات والاجتهاد غير متردد في إعطاء الطالب القبطي الدرجة النهائية إن كان يستحقها.ولما كنت في جامعة أسيوط جاءني من الطلبة المسلمين من يقول إن الأساتذة الأقباط يعطون دروساً خصوصية في الكنيسة للطلبة الأقباط فلماذا لا أرتب دروساً خصوصية للطلبة المسلمين في الجمعية الإسلامية، وقلت إن بابي مفتوح في كل وقت لمن شاء من المسلمين أو الأقباط أن يستزيد من العلم، وأن الخريج عندما يصبح طبيباً ستكون في يده أرواح المرضي من المسلمين والمسيحيين ،سواء أكان مسلماً أم مسيحياً.. وذهبت يوماً لإلقاء محاضرتي فوجدت جلبة أمام المدرج ،فبقيت في سيارتي حتي جاء الطلبة معتذرين.. وسألت فعلمت أنها كانت مشادة إسلامية قبطية فخصصت المحاضرة كلها للحديث عن هذا الموضوع مستشهداً بما في القرآن ومافي الإنجيل.وأسعدني بعدها بأيام وأنا أسيرفي الحرم الجامعي أن أسمع ورائي وقع خطوات وأن يدركني أحد الطلبة فيقول :"أريد أن أعلمك أنني طالب قبطي وكنت شديد التعصب حتي سمعت محاضرتك، وأعدك أنني من بعد لن أكون متعصباً أبداً". وعندما قتل الأستاذ البنا بتدبير الحكومة (إبراهيم عبد الهادي ) ومنعت الحكومة أن يشيع جنازته أحد غير أبيه وسيدات الأسرة، اقتحم رجل واحد نطاق البوليس وجاء لتقديم العزاء ،هو وليم مكرم عبيد من كبار الساسة وكبار الأقباط.إلي هنا انتهي ماكتبه د.حسان رحمه الله في هذه النقطة. أما فيما يتعلق بموضوع "الدولة الدينية" فقد حرص الإمام البنا رحمه الله علي نفي أي صلة للإسلام بمفهومها وقال: "ليست هناك سلطة في الإسلام غير سلطة الدولة تحمي تعاليم الإسلام وتقود أمته الي خير الدين والدنيا معاً ولا يعرف الإسلام ما ظهر في أوروبا - في العصور الوسطي - من تنازع السلطة الروحية والزمنية ومن خلاف بين الدولة والكنيسة " انتهي بضرورة الفصل بين الدين والدولة. أما بالنسبة لقوله "الإسلام دين ودولة " فيفسرها الإمام البنا بأن الإسلام شريعة ربانية جاءت بتعاليم انسانية وأحكام اجتماعية وكلت حمايتها ونشرها والإشراف علي تنفيذها بين المؤمنين بها وتبليغها للذين لم يؤمنوا بها الي الدولة. ولمعرفة المزيد من التفاصيل حول ذلك الموضوع أحيل القارئ إلي كتاب "الفكر السياسي للإمام حسن البنا " للباحث ابراهيم البيومي غانم عن رسالة قدمت لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة وكان من المناقشين لها سيادة المستشار طارق البشري والدكتور كمال المنوفي.. حفظ الله مصر وجعلها أمناً وسلاماً لكل من يعيش عليها.