تعد مشروعاً جهنمياً .. وسبق في كيفية تدوير الآلة الجهنمية الإعلامية في إنتاج بطل أسطوري ليحين موعد انطلاقه لساحة المعركة المرتقبة .. سنوات عدة مرت تم تقديم الرجل الذي جاوز الثمانين بُحسبانه رائد الوسطية ومجدد الفكر الإسلامي وحامل مشاعل التنوير .. قُدم القرضاوي كنموذج حديث للتيسير والاعتدال في مقابل متشددي الحركات الإسلامية .. الرجل وبحق له ملكات وإمكانيات .. أزهري مُعمم ، خطيبُ مفوه .. متعدد الصلات ومتشعب العلاقات .. في نفس الوقت يظهر للعيان شيخاً مُستقل لا ينتمي لأي تيار أو تنظيم .. يعمل لصالح الأمة كلها. تم تصويره كمجدد العصر ونابغته الفقهي ، بالغت الأقلام في الثناء عليه حتي صار يُلقب بشيخ الإسلام وفقيه العصر وحُجة الزمان .. تكلم الحواريون بعلمه الذي سارت به الركبان والفضائيات .. حتى جزم البعض بأنه له الفضل بعد الله عز وجل في الصحوة الإسلامية الوسطية وهذا البعث الإسلامي الذي يعم العالم الحائر خيره ! ألقاب دينية ورتب علمية لا حصر لها ولا حد.. تفوق ما يتقلده مراجع الشيعة الاثنى عشرية .. تمدد لا حد له لشعبية الرجل على مستوى العالم الإسلامي، وكذا في عقول وقلوب الأقليات المسلمة علي مستوي العالم وخاصة لبحثه الموسع في فقه الأقليات الإسلامية. الحق أن للرجل عدد كبير من المؤلفات المتنوعة ما بين الفقه ، والوعظ ، والتوجيه الاجتماعي ، وترشيد الصحوة الإسلامية ، وفقه الأقليات المسلمة ، بل وله إسهامات جيدة في ميادين الشعر والأدب والتاريخ .. في حقيقة الأمر جري تسويق ذلك كله ليتم رسم صورة شاملة للوجوه المتعددة للقرضاوي التي تقطع بمرجعيته الشاملة في شتى المجالات . ثم كان الدور المهم الذي لعبته قناة الجزيرة القطرية ، و تحديداً برنامج « الشريعة والحياة » الذي تحول إلي منبراً قدم القرضاوي كعالم الأمة الأوحد وصاحب الاجتهاد الذي لا يخطئ أبداً .. والمنُظر الفقيه للقضايا السياسية، والصوت الممتد للتحاور مع المذاهب والطوائف الأخرى. و بلا شك الرجل يمتلك رصيداً هائلاً من فتاوي التيسير التي يتوق لها العامة والخاصة ، بل وأكثر من ذلك يصرح القرضاوي في أكثر من محفل بأنه يخفي كثيرا من مواقفه وفتاواه المعتدلة خوفا من أن يسبب ذلك تشويشا على عامة المسلمين .. المهم صار أسم الشيخ لا يكاد يغيب عن أي محفل أو لقاء إسلامي ، صار الكل يشير له أنه وحصرياً الفقيه الناطق باسم « أهل السنة والجماعة » والممثل الأبرز لهم، وتتويجا لذلك كله جاء تأسيس « الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين » الذي يتربع علي قمته .. ببساطة تم تقنين هذا الزخم الإعلامي وذلك الحضور العابر للقارات في مؤسسة لها أسم رنان .. ضمت في عضويتها عدداً من القامات الفقهية من مختلف البلاد وشتى المذاهب الإسلامية .. صار للرجل ثقل يوازي به المرجعيات الدينية ، سواء داخل الدائرة الإسلامية السنية كمرجعية الأزهر الشريف أو الدائرة الإسلامية الشيعية كمرجعيات النجف الأشرف وقُم ، أو داخل الدائرة المسيحية كمرجعية الفاتيكان أو بطريرك الكنيسة المرقسية المصرية . أثمرت حملة صناعة وتسويق الرمز شعبية هادرة .. وجنت بطبيعة الحال جوائز متنوعة ، مثل جائزة العطاء العلمي المتميز من رئيس الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا ، وجائزة السلطان بروناي في الفقه الإسلامي ، وجائزة سلطان العويس في الإنجاز الثقافي والعلمي ، وجائزة دبي للقرآن الكريم فرع شخصية العام الإسلامية، بالإضافة إلى جائزة الدولة التقديرية للدراسات الإسلامية من دولة قطر . ليحتل الرمز المصنوع بدهاء وذكاء المرتبة الثالثة بعد المفكر التركي فتح الله كولن، والعالم البنغالي بمجال الاقتصاد محمد يونس ضمن أبرز المفكرين على مستوى العالم في قائمة عشرين شخصية أكثر تأثيرا على مستوى العالم لعام 2008، وذلك في استطلاع دولي أجرته مجلتا «فورين بولسي» الأميركية، و«بروسبكت» البريطانية على التوالي. كل هذه النجاحات لم يكن ينغصها إلا إلحاح بعض وسائل الإعلام والكُتاب علي الإشارة إلي ماضي القرضاوي وعلاقته بجماعة الإخوان المسلمين .. المعلوم للكافة أن القرضاوي انتمي لجماعة الإخوان المسلمين في سن مبكرة ، انخرط في صفوفها وأقسم يمين الولاء للجماعة الأم لكل حركات الإسلام السياسي علي يد المؤسس الأول حسن البنا . يتردد أنه قد عرض عليه يوماً منصب المرشد العام للجماعة .. لكن الرجل فضل المكوث بدويلة قطر التي يصدح بفضلها ليل نهار بصورة فتحت عليه أبواب الهجوم بعد أن وصف هذه الإمارة مؤخراً بأنها قد أطعمته من جوع وأمنته من خوف !! مما أستفز مشاعر كثيراً من أهل العلم الشرعي لعدم لياقة التمثيل والتقريب لما هو بيد الله العلي القدير .. والحقيقة أن الدروع الإعلامية للشيخ كانت لا تمل من التأكيد علي حقيقة لا تقبل عندهم النقاش أن الشيخ بعيداً عن الانتماءات الضيقة وأن ولائه للإسلام دون سواه .. حتي صار مجرد الهجوم عليه أو فتح الحديث عن ماضيه او مناقشته في بعض فتاويه يعد طعناً في الدين وهجوم علي الولي الفقيه لعموم المسلمين السنة .. الحقيقة أنه لم يكن يضير المسلمين كثيراً أن يكون هناك رمزاً دينياً سامق مثل القرضاوي تُلقي عليه الأضواء .. حتى ولو كانت وراءه ماكينة تصنع له البريق وتمهد له الطريق .. فالرجل في أرذل العمر ولا يوجد له طموح سياسي أو تطلع وظيفي .. ولا يلج باب السياسة إلا بحدود الإصلاح وتطييب النفوس وجمع الكلمة والعمل فيما يكون فيه اتفاق بين عموم المسلمين .. لكن حين دقت ساعة الربيع العربي الذي انكشفت حقيقته بعد قليل خريفاً زمهرير ، كانت لحظة انكشاف المستور .. وإخراج كل محذور .. واستخدام هذا الرمز الذي صُنع علي عين خبير .. أطلت مع ثورة مصر المرحلة الحرجة الكاشفة الفاصلة في حياة القرضاوي، بمجرد اشتعال الثورة علي مبارك .. علي بساط الريح ركب القرضاوي الطائرة وعاد إلي مصر .. فُتن بعودته الكثير ، وتأبط البعض منها شراً .. شبه البعض هذه العودة كعودة الخميني عند اندلاع الثورة الإيرانية من فرنسا .. لكن مهلاً .. العبرة بالخواتيم .. فالمنحدر زلق والمخطط متين .. والأوراق ستنكشف سريعاً لكل المصريين . عاد الشيخ وتوجه ليخطب في ميدان التحرير محييا الثوار، ومهللا بالانتصار، بدأ عبارات الخطاب تفصح عن حقيقة الخبئ .. نزع الرجل سريعاً عن كلامه عمامتُه الأزهرية .. كشف عن زيف استقلاله ، قالها صريحة لا لبس فيها ولا مواربة : « إن جماعة الإخوان المسلمين هي أفضل الجماعات الإسلامية الموجودة اليوم » .. نفض الرجل سريعاً عن عباءته التقية والمدارة .. أفتي صراحة أن التصويت لمرشح الإخوان في سباق الرئاسة محمد مرسي فرضاً شرعي و واجباً ديني .. لم يتوقف الرجل عن السقوط بل انبري حين رأي أمارات العصيان والخروج علي حكم الإخوان .. جن جنونه وهو يري الحلم القديم سرعان ما يتبدد .. لم يتورع أن يصف الرافضين لحكم الإخوان والموقعين علي استمارة تمرد بأنهم « خوارج »، وأرسل حمم لسانه ليقصف ويقذف في حقي العالم الجليل مفتي الديار السابق الدكتور علي جمعة ويصفه بأنه «عبد للسلطة والعسكر»، لأنه انحاز لصف من انقلبوا على «الرئيس الشرعي» وباعوا دينهم من أجل أرضاء السيسي، حسب ما كان يهرف به وتنطق تخاريف شيخوخته . وسبحان مغير الأحوال ومقلب القلوب والعباد .. فبعد أن كان القرضاوي فقيهاً تهتف باسمه الجموع في ميدان التحرير، وخطيباً يؤم المصلين والثوار، تحول إلى رجل مطلوب للاعتقال، ينفرُ منه قلوب سواد المصريين .. تلاحقه بلاغات تتهمه بالتحريض على قتل متظاهرين في أحداث مختلفة. تخلى القرضاوي أو تم توجيهه للتخلي عن كل أبجديات المناورة السياسية التي كان يستخدمها، فارتدت لهبها عليه فأحرقت تاريخه وعزلته في إمارة يتملق أميرها بما لا يليق برجل يحمل كتاب الله ويضع عمامة الأزهر علي رأسه .. من اقترب من الرجل قديماً وأحبه يوماً صار يضرب كفاً بكف ويترحم علي القرضاوي الذي توفاه الله يوم أن صار مجرد أداة تستخدم .. وصدق الحبيب المصطفي ( ص ) : إن العبد ليعمل في ما يرى الناس عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار. ويعمل في ما يرى الناس عمل أهل النار وهو من أهل الجنة. وإنما الأعمال بالخواتيم . .