كان كل شئ في دبي ينبئك أن دبي قد تجاوزت أصعب محطات الأزمة الاقتصادية التي عصفت بها كما عصفت بأغلب اقتصاديات العالم في العام 2009، كانت دبي تعيش اجواء احتفالية ، حيث يتزامن الاحتفال بعيد الأضحي بالعيد الوطني الثامن والثلاثين لاتحاد الامارات تحت دولة واحدة ، عيد الاتحاد هنا يبدو عيدا حقيقيا اكثر حتي من عيد الاضحي والفطر والكريسماس والديوالي (عيد الهنود)، ترتدي دبي حللا من ألوان العلم الأربعة ، ويتزين الأطفال بالثياب الوطنية ، يبدو واضحا ان الاماراتيين فخورون بتجربتهم الحديثة التي قد صارت ملهمة للعالم اجمع ، في هذه الأجواء الصاخبة، وبينما كان الجميع غائبين عن اعمالهم في اجازة الأعياد ، جاء خبر ازمة ديون دبي العالمية كالصاعقة ، دبي تعاني من أزمة اقتصادية جديدة ، قد تكون طاحنة ، قد تكون احد اعراض ازمة الاقتصاد العالمي ، وقد تكون مفتتحا لأزمة أكبر في الاقتصاد العالمي ، ربنا يستر. نعيش هنا المصريون في دبي في اجواء الحنين لبلادنا الصاخبة ، نفتقد صوت الشارع ، ومحلات الكشري والفول والطعمية ، نفتقد التمشية في وسط البلد والجلوس علي المقاهي، نعامل دبي احيانا علي انها الزوجة البديلة ، جميلة وبنت ناس لكنها ليست ابدا الحبيبة ، لكن حين يأتي وقت الأزمات ونراجع الحقائق، نكتشف اننا ينبغي ان نكون ممتنين كثيرا لهذه الإمارة التي يحسب لها قبل أي كلام عن الاقتصاد انها قدمت نموذجا يضرب به المثل في التعايش بين كل الجنسيات والأعراق والأديان ، وفق قاعدة احترام الآخر واحترام الخصوصية ، ومراعاة الحريات الشخصية ، وقدمت فوق ذلك نموذجا في احترام القانون، والمساواة امامه بين الجميع ، علي الأقل يبدو المشهد هكذا أمامي وامام الكثيرين . احتفي كثير من الكتاب المرموقين بخروج دبي من عثرة 2009 ، لتصبح مضربا للأمثال في نموذج الدولة الرأسمالية، لم تكن كتابات الكتاب هي المؤشر الوحيد علي تجاوز ازمة دبي ، كانت اعلانات التوظيف التي بدأت تعود علي استحياء ، ارتفاع غير محمود بدأ يعاود مرة أخري اسعار العقارات ليؤشر ان خروجا من الأزمة قد حدث ، يعود الحديث عن دبي كنموذج المدينة التي يحلم البشر للحياة فيها ، تحكي لي صديقتي ماني الأمريكية من أصول ايرانية ، كيف أن كل اصدقائها علي الضفتين في الولاياتالمتحدة او في طهران يحلمون بفرصة للحياة في دبي ... جنة الله في الأرض . ولتعرف كيف تكون الحياة في الجنة ، اليك المشاهدات التالية : يفضل الأوربيون الذين يدفعون في بلادهم ما يقارب 45% من دخولهم للضرائب ، الحياة في دبي حيث لا تدفع ضرائب علي الاطلاق، لنفس السبب يفضلها المستثمرون ، هنا انتهت دولة الضرائب، لتبدأ دولة البيع والشراء، فاذا كنت لا تدفع للدولة فلا تتوقع منها ان تمنحك خدماتها مجانا ، ومن هنا جاء ارتفاع ملحوظ في تكلفة الحياة في دبي ، تشتري المياه للشرب، وتشتري الكهرباء لادراة المكيفات، لا تتعجب اذا وصلت فاتورة تكلفتك للكهرباء الي الالف درهم ، فهذا منطق البيع والشراء ، يستغرب الكثيرون كون دبيالمدينة الوحيدة في العالم تقريبا التي تحصل رسوم عبور علي الطريق داخل المدينة فيما يعرف تحت "تعرفة رسوم سالك" ، ولكي تسير حياتك بانتظام في المدينة التي ظهرت للعالم كنموذج اقتصادي رغم خلوها من ثروات النفط ، لابد ان تبدا رحلتك مع البنوك لشراء سيارة بالتقسيط ، المر الذي يشبه هنا تناول حبة علكة بعد الغداء ، اغلب الذين بدأوا تجربتهم في دبي قبل بدايات الأزمة الاقتصادية كانوا يستهلون حياتهم في دبي بقرض كبير يصل عند البعض لنصف المليون او المليون درهم اماراتي ، لا تختلف اجراءات الحصول عليه هو الآخر عن حبة علكة .. الحصول علي القروض امر يسير في دبي ، بينما قد يتعثر سدادها للذين قد تنهي عقودهم ، بعض هؤلاء ، غادروا الدولة في منتصف 2009 محملين بعبء الديون ، وبعضهم ترك سيارته في المطار مغادرا دون البحث في امكانية تسوية القرض الخاص بها ، وكانت النميمة تسري في دبي ان ثمة مائة الف سيارة تركها اصحابها في الصيف الماضي في المطار مغادرين بلا رجعة ، المر الذي نفاه ضاحي خلفان قائد شرطة دبي ، إلا ان الناس ما تزال تصدق للأحياء في دبي بدت الأزمة رحيمة احيانا حيث ساهمت بقدر كبير في تخفيض الاسعار المبالغ فيها لإيجارات المساكن نظرا لقلة الطلب ، ومغادرة عدد كبير من العاملين في دبي الي بلادهم بلا رجعة ، وبدا للازمة وجه آخر حينما يتعلق الامر بالذين وفدوا لدبي في نهايات العام 2008 مؤملين بحياة جديدة، احد هؤلاء هو كايزر موسي وهو مونتير مصري موهوب وقد بدأ في يونية 2008 تعاقده مع المجموعة العربية للاعلام المملوكة للدولة ، الأشهر الأولي في حياة كايزر في دبي كانت شهور ترتيب الأوراق : استقدم زوجته وابنه للحياة معه ، تأجير شقة صغيرة ، شراء سيارة بالتقسيط، لتنتهي شهور التأسيس بقرار المجموعة العربية للاعلام انهاء التعاقدات مع عدد كبير من موظفيها ، كايزر يؤكد انه يحب الحياة في دبي ، وقد اعتاد نظام الحياة فيها بما لا يمكنه من العودة ومواصلة حياته وفق نمط حياة مختلف تماما بالقاهرة .. وهو يفضلها كمدينة يتمني ان ينشأ فيها ابنه الصغير ، اغلب الذين انهيت تعاقداتهم في دبي يصبحون ناجين في حالة الحصول علي فرصة بديلة ، الأمر الذي وجده كايزر في امارة أبوظبي بعقد مؤقت ، مفضلا السفر ذهابا وايابا يوميا من وإلي ابو ظبي علي العودة الي مصر .. المهندس وليد مصري قدم لدبي متعاقدا مع واحدة من اكبر شركات المقاولات ، ولم يفعل في اشهر اقامته الأولي في دبي أكثر من فتح ملف في ادراة المرور للحصول علي رخصة قيادة ، قبل ان تعلن الشركة انهاء تعاقدات ما يقرب من ثلاث ارباع العاملين بها ، وحيث ان قطاع الانشاءات والعقارات كان هو الخاسر الأكبر ابان ازمة دبي ، فلم ينجح وليد نصر في تحصيل عمل بديل وعاد للقاهرة ليثبت انتهاء العصر الذهبي للمهندسين في دبي .. كان يقال دائما ان دبي هي جنة المهندسين مهندس آخر يعمل في قطاع البترول ، من المحظوظين الذين قدموا لدبي قبل خمس سنوات متعاقدا مع احدي الشركات الكبري التي امنت له ولأسرته مسكنا لائقا ، ومدارس راقية لتعليم الولاد تتحمل الشركة تكلفتها التي هي تكلفة خيالية في الامارة ، فضلا عن راتب محترم ، كان هو الاخر احد ضحايا الأزمة حيث قررت الشركة مؤخرا نقله للسكن في السكن المخصص للموظفين في الموقع الميداني ، بما لا يسمح بانتقال اسرته كلها ، الأمر الذي دفع الاسرة كلها للعودة الي مصر مفضلين عدم بقاء الأب وحده في دبي .