حماة الوطن يهنئ أهالي أسيوط ب العيد القومي للمحافظة    امتحانات الثانوية العامة.. التقرير الأسبوعي لوزارة «التعليم» في الفترة من 13 إلى 19 إبريل 2024    إسلام الكتاتني: الإخوان واجهت الدولة في ثورة يونيو بتفكير مؤسسي وليس فرديًا    صندوق النقد: إعادة هيكلة الديون وإنعاش النمو أولويات أمام العالم الفترة المقبلة    التخطيط: 7 سلاسل فنادق عالمية تتقدم بعروض لاستغلال مقار وزارات وسط البلد    وزيرا خارجية مصر وجنوب أفريقيا يترأسان أعمال الدورة العاشرة للجنة المشتركة بين البلدين    6 آلاف فرصة عمل | بشرى لتوظيف شباب قنا بهذه المصانع    وزير الخارجية سامح شكرى يتوجه إلى تركيا فى زيارة ثنائية    قريبة من موقع نووي.. أحمد موسى يكشف تفاصيل الضربة الإسرائيلية على إيران    كيف بدت الأجواء في إيران بعد الهجوم على أصفهان فجر اليوم؟    السودان: عودة مفاوضات جدة بين الجيش و"الدعم السريع" دون شروط    سفير مصر بالكونغو يحضر مران الأهلي الأخير استعدادا لمازيمبي بدوري الأبطال    لؤي وائل يتعرض لإصابة قوية في الرأس خلال مباراة بلدية المحلة والمقاولون    فانتازي يلا كورة.. 3 نصائح قبل الجولة ال34 (فيديو)    المتهم بقتل مسنة الغربية يمثل الجريمة أمام جهات التحقيق    الحماية المدنية تسيطر على حريق محدود داخل وحدة صحية في بورسعيد    مصرع 8 أشخاص من أسرة واحدة أثناء عودتهم من حفل زفاف بالدقهلية    محاكمة عامل يتاجر في النقد الأجنبي بعابدين.. الأحد    مدير مكتبة الإسكندرية ينعى الفنان صلاح السعدنى    جيش الاحتلال: إطلاق ثلاثة صواريخ من جنوب لبنان تجاه الجليل الأعلى    من بينهم السراب وأهل الكهف..قائمة أفلام عيد الأضحى المبارك 2024    متحف مفتوح بقلب القاهرة التاريخية| شارع الأشراف «بقيع مصر» مسار جديد لجذب محبى «آل البيت»    افتتاح "المؤتمر الدولي الثامن للصحة النفسية وعلاج الإدمان" فى الإسكندرية    الداخلية تكشف تفاصيل منشور ادعى صاحبه سرقة الدراجات النارية في الفيوم    جامعة القاهرة تحتل المرتبة 38 عالميًا لأول مرة فى تخصص إدارة المكتبات والمعلومات    وزير الاتصالات يشهد ختام فعاليات البطولة الدولية للبرمجيات بالأقصر    «التحالف الوطني»: 74 قاطرة محملة بغذاء ومشروبات وملابس لأشقائنا في غزة    رجال يد الأهلي يلتقي عين التوتة الجزائري في بطولة كأس الكؤوس    محمود قاسم عن صلاح السعدني: الفن العربي فقد قامة كبيرة لا تتكرر    بالإنفوجراف.. 29 معلومة عن امتحانات الثانوية العامة 2024    وزير الصحة يكشف طبيعة علاقته بفيسبوك وإنستجرام    وفاة رئيس أرسنال السابق    "مصريين بلا حدود" تنظم حوارا مجتمعيا لمكافحة التمييز وتعزيز المساواة    وزيرة التضامن ورئيس مهرجان الإسكندرية يبحثان تطوير سينما المكفوفين    العمدة أهلاوي قديم.. الخطيب يحضر جنازة الفنان صلاح السعدني (صورة)    "التعليم": مشروع رأس المال الدائم يؤهل الطلاب كرواد أعمال في المستقبل    سوق السيارات المستعملة ببني سويف يشهد تسجيل أول مركبة في الشهر العقاري (صور)    شرب وصرف صحي الأقصر تنفى انقطاع المياه .. اليوم    الكنيسة الأرثوذكسية تحيي ذكرى نياحة الأنبا إيساك    خالد جلال ناعيا صلاح السعدني: حفر اسمه في تاريخ الفن المصري    دعاء لأبي المتوفي يوم الجمعة.. من أفضل الصدقات    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    انطلاق 10 قوافل دعوية.. وعلماء الأوقاف يؤكدون: الصدق طريق الفائزين    القاهرة الإخبارية: تخبط في حكومة نتنياهو بعد الرد الإسرائيلي على إيران    بطولة إفريقيا للكرة الطائرة.. مباريات اليوم السادس    تحرك برلماني بسبب نقص أدوية الأمراض المزمنة ولبن الأطفال    احذر| ظهور هذه الأحرف "Lou bott" على شاشة عداد الكهرباء "أبو كارت"    الصحة: فحص 432 ألف طفل ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية    4 أبراج ما بتعرفش الفشل في الشغل.. الحمل جريء وطموح والقوس مغامر    استشهاد شاب فلسطينى وإصابة 2 بالرصاص خلال عدوان الاحتلال المستمر على مخيم نور شمس شمال الضفة    طريقة تحضير بخاخ الجيوب الأنفية في المنزل    ضبط 14799 مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    تمريض القناة تناقش ابتكارات الذكاء الاصطناعي    ليفركوزن يخطط لمواصلة سلسلته الاستثنائية    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    الجامعة العربية توصي مجلس الأمن بالاعتراف بمجلس الأمن وضمها لعضوية المنظمة الدولية    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تكفير الشيخ الغزالي
نشر في صوت الأمة يوم 06 - 02 - 2013

قصة هذا الكتاب تبدو معقولة لأول وهلة، فقد كتب العلامة الشيخ محمد الغزالى كتاباً قيما بعنوان «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث»، ووجه فيه انتقادات عنيفة للأفهام الضيقة ولأتباع المذهب الوهابى المتشدد على وجه الخصوص، ورد الداعية الوهابى المصرى المعروف «أبى اسحاق الحوينى» فى الكتاب الذى نورد أهم نصوصه بالحرف هذا الأسبوع والذى حمل عنوان «طليعة سمط اللآلى فى الرد على الشيخ محمد الغزالى».
إلى هنا، تبدو القصة مفهومة، لكن الشاذ حقاً هو تلك اللغة العنيفة التى رد بها الحوينى، والذى لم يكتف بمناقشة آراء العلامة الغزالى، بل اتهمه بالجهل واشتد فى النكير عليه إلى حد يقارب معنى التكفير، وقال الحوينى عن الشيخ الغزالى فى وصلة ردح «قبحك الله من داع أممى البصيرة، ما لديك من شىء من فقه الإسلام، ولا من أدب الدعوة، ومثلك لا يزيد الأمة إلا خبالا باسم السنة والسنة منك براء»، وإذا كانت هذه هى الطريقة التى خاطب بها الحوينى الشيخ محمد الغزالى بجلالة قدره، فما بالك بطريقة مخاطبته لعلماء مسلمين أقل شأنا من الغزالى بل بطريقة مخاطبته لعموم المسلمين، إنها لعبة التسفيه والتكفير المجانى على طريقة السلفيين الوهابيين.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره. ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار.
الأستاذ محمد الغزالى - هداه الله - هو أحد الدعاة البارزين فى هذا العصر. وهو من أفضلهم عرضاً للقضايا الإسلامية فى الجملة لما يتميز به من حسن ظاهر، وحرارة عالية، وتفوق فى الأداء. وهو متحدث لبق، يستولى على آذان سامعيه. وقد أحيا الله به قلوباً كثيرة، لاسيما فى خطبه المشهورة فى أيام الجمعات.
وله جهد مشكور فى الذود عن حمى الإسلام ضد أعدائه من اليهودية، والنصرانية، والعلمانية، وغيرها.
وكذلك دعوته الشباب ألا يضخموا المسائل الفرعية، فيجعلونها كالمسائل الأصولية، لأن معنى ذلك أنهم إن اختلفوا فى مسألة فرعية أقاموا لها القيامة، ولا ترتقى أمة تمضى على هذا النحو، لاسيما ودين الله معزول عن واقع الحياة.
كل هذا - وغيره - مما نحمده للأستاذ الغزالى، وندعو الله أن يزيده توفيقاً.
وإنما قدمت بهذا الثناء الذى أعلمه عن الأستاذ، وأنا فى معرض النقد العلمى لكتابه الأخير: «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث» امتثالاً لكلمة التابعى الجليل محمد بن سيرين رحمه الله حيث قال: «ظلمك لأخيك أن تذكر عنه أسوأ ما تعلم، وتكتمه خيره» فقد حرصت جد الحرص أن أكون عوناً للأستاذ على فهم ما اختلط عليه من الأقضيات التى طرحها فى كتابه، وما هى إلا مجرد شبهات تعرض لأى إنسان لا يمعن النظر فى الأدلة، فكان الواجب عليه أن يسأل من هو أعلم منه إذ لم يعلم، وليس فى ذلك عيب البتة، بل هو دال على الإنصاف، والإنصاف عزيز وقد ترفقت فى ردى هذا ما استطعت، إلا فى مواضع محدودة، ساورته فيها بمقتضى صنيعه وتعلقت بالمعنى العلمى المتنازع عليه، ولو أردنا أن نكيل للأستاذ بمثل ما كال به لغيره، إذن لفعلنا فأشوينا، ولكن:
عبأت له حلمى لأكرم غيره.. وأعرضت عنه، وهو باد مقاتله!
ولما طلب منى غير واحد من أهل العلم والفضل أن أبادر بالرد على هذا الكتاب أحجمت لكثرة الأشغال التى ينوء بها كاهلى، ولقلة فراغى، وخلو بالى، فناشدنى أحدهم لله عز وجل أن أكتبه فى أوقات راحتى من العمل! وزعم لى أنه فرض كفاية.
ولأننى أعلم خطورة الكتاب على جماهير المسلمين لما فيه من حيف شديد على الأدلة الشرعية والقواعد الأصولية، مع جرأة شديدة على جمع من علماء المسلمين بغير الحق، فقد بادرت إلى كتابة هذه الطليعة بين يدى الكتاب، لأبين فيها شيئاً من مغالطات الأستاذ، المضادة للأمانة العلمية. أما الكتاب فسيخرج فى جزءين إن شاء الله تعالى. وجعلت هذه الطليعة تذكرة لمن رام الحق بدليله.
وقد أقدمت على هذا الرد أيضاً امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى: «والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون» ولقول النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قيل: كيف أنصره ظالماً؟! قال: تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره».
أخرجه البخارى، وأحمد، والترمذى من حديث أنس رضى الله عنه وأخرجه مسلم وأحمد، والدارمى من حديث جابر رضى الله عنه، فرأيت أن أنصر الأستاذ - وهو حق المسلم على أخيه - بأن أرده إلى وجه الحق، الذى لم يوفق إليه، وليس فى هذا عار يلحقه إن شاء الله تعالى، وقد ساءنى منه أن ينصب العداء بين المحدثين والفقهاء على نحو معيب، يكبر علىَّ أن يصدر منه، فيصور المحدثين على أنهم نقلة يجهلون معنى ما يحملون!، وهذا بهتان عظيم ناشئ عن قلة اطلاع على الأقل، وتلك نغمة تسرى فى كتابات الأستاذ، فإنه منذ أكثر من عشر سنين وهو يصرح بالطعن على «أهل الحديث» والذين يتسمون فى كثير من بلدان المسلمين ب«السلفيين»، ويرميهم بدائه، على قاعدة: «رمتنى بدائها وانسلت»، وقد اغتر بكتابه هذا جمهور عريض من «المثقفين»، الذين يعانون من الأمية الدينية، وتنفس كثير منهم الصعداء لما كتب الأستاذ كتابه وقالوا: «هذا سهم رماه الأقربون» ظناً منهم أن الأستاذ من المنصفين فى البحث، أو على الأقل من المتعمقين فيه. فقد بدا لى جلياً أن مجال الأستاذ هو الرد على اليهود أو النصارى أو العلمانيين، أو كتابة الكتب الإسلامية العامة بطريقة الأدباء، أما أن يخوض فى الأحكام الشرعية، أو فى دقائقها، أو يسلك مسلك الجمع أو الترجيح بالأدلة المعروفة، فهو فيه مسكين، بل فقير. وسوف ترى بضاعة الأستاذ من خلال ردنا عليه فى هذا الكتاب.
ولقد كنت أود أن يظل الأستاذ حميدا بأن يقتصر على الذى يحسنه، فإذا به يندفع غير ناظر تحت قدميه، وقد ظن أن شهرته بين الناس يمكن أن تحول دون كشف زلاته التى لا يقع فيها طلاب العلم، فضلاً عن العلماء الكبار الذين لم يقم الأستاذ لهم وزناً، على قاعدة «الاستخفاف بالمخالف» التى نبغ فيها الأستاذ أيما نبوغ!!
ومما رأيته فى «صحيفة الأهرام» أن الصحفى فهمى هويدى كتب مقالاً وصف فيه كتاب الأستاذ بأنه «قنبلة»، ونحن لا نلتفت إليه لأن بضاعته مزجاة، ولأن مثله لا يصلح أن يكون حكماً، ولعله يعلم هو وغيره أن هذا الكتاب إن صح وصفه ب«القنبلة»، فهى كما يقول العوام: «فشنك»! يعنى لها دوى، ولكن لا تأثير لها. ولقد ذكرتنى هذه «القنبلة» بذلك الرجل الذى بال فى ماء زمزم زمان الحج، فقيل له فى ذلك؟! فقال: أردت أن أذكر ولو باللعنات!!
ويمكن إجمال المآخذ على كتاب الأستاذ فيما يلى:
1 - أنه مع دعوته الدائبة إلى التمسك بأدب الحوار، وترك التنابز بالألقاب، واستخدام الألفاظ القاسية فى معرض النقاش العلمى، قد وقع فى هذه الوهدة من الاستخفاف بمخالفيه، فاستخدم هذه الألفاظ فى نقاشه، حتى صار ذلك شعاراً له فى كتبه الأخيرة بدءاً من كتابه «دستور الوحدة الثقافية» وحتى كتابه الأخير الذى نرد عليه.
والأستاذ يدعو - وحق له - إلى تدبر معانى القرآن الحكيم، والعمل بما فيه، فكنت أحب له أن يتفكر فى قوله تعالى:
«يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون».
وقد استخدم فى تعبيره عن المحدثين بعض الألفاظ، مثل «بصرهم بالقرآن كليل»، «فتيان سوء»، «إنهم محجوبون عن الانتباه لألفاظ القرآن»، «أصحاب الفكر السطحى»، «الشاغبون»، «القاصرون»، «الجهلة» إلى آخر هذه الألفاظ التى كنت أحب للأستاذ أن يترفع عنها، لأن مثله كمثل الطبيب إذا تناول المريض، فبرفق، وأناة، وصبر.
وكان من أثر استخدام الأستاذ لهذه الألفاظ أن قد بلغنى أن بعض الذين يردون عليه، قد جمع كتاباً، أو فصلاً فى كتاب سماه: «قاموس شتائم الغزالى»!! فذكر كل شتائمه، ورتبها على حروف المعجم لكثرتها!!
وأنا أذكر هذا للعلم فقط، وإلا فأنا أكره تتبع الزلات، فقد نهى غير واحد من السلف عن هذا.
وكذلك بلغنى أن بعضهم - وقد قابلته وشافهنى بذلك - عارض كتابه «هموم داعية» بكتاب آخر ينقضه سماه: «سموم داعية»، ومما آلمنى أن بعض الثقات قال لى: سمعت رجلاً أثق به وسماه لى قال للأستاذ: إن كثيرين يردون عليك فى كتابك الأخير، فما جوابك؟!.
فأجابه بقول الشاعر:
لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لعز الصخر مثقال بدينار
أفهذه نظرة الأستاذ لخصومه ومخالفيه؟! فالله المستعان.
2 - أنه يعتد بعقله جداً، وكأنه الوحيد الذى يفكر ويتدبر، وأن مخالفيه - مع كثرتهم وجلالتهم - أقل منه عقلاً وفهماً وسترى فى هذا الرد ما يدهشك من صنيعه.
وقد سار الأستاذ على مسلكه هذا، حتى مع القدامى من الأئمة الفحول.
فقد عرض «ص26 - 29» قضية موسى وملك الموت التى رواها الشيخان عن أبى هريرة رضى الله عنه، وقد رفض الحديث وزعم أنه «معلول» لأنه لا يتصور أن يكره الصالحون الموت، لاسيما الأنبياء. وبعد أن نقل أجوبة العلماء السالفين كابن خزيمة والمازرى، والقاضى عياض، والنووى، قال: «وهذا الدفاع كله خفيف الوزن، وهو دفاع تافه لا يساغ.. ثم قال: والعلة فى المتن يبصرها المحققون، وتخفى على أصحاب الفكر السطحى».
قلت: فمن هم «المحققون» الذين أدركوا علة هذا الحديث؟! إنه الأستاذ وحده!! ومن هم أصحاب الفكر السطحى؟ إنهم جميع شراح «البخارى» وعدتهم أكثر من ثلاثمائة نفس، وكذا شراح «مسلم» ويحضرنى منهم أكثر من عشرين عالماً، بخلاف ابن خزيمة والمازرى والقاضى عياض، وابن تيمية، والذهبى، وابن القيم، فى آخرين يطول المقام جداً باستيعاب أسمائهم، فإنهم جميعاً مروا على هذا الحديث وغيره من أمثاله، ولم يعترضوها، بل فسروها تفسيراً مستقيماً كما يأتى بيانه فى موضعه إن شاء الله تعالى، ولم يصرح واحد منهم أن فى المتن «نكارة» أو «غرابة»، حتى ابتلانا الله عز وجل ب«المحققين»!!.
وفعل الأستاذ فى هذا الموضع، وفى عشرات مثله فى سائر كتبه يبين لنا أنه من الأشاعرة المتعصبين، وأنه ليس على منهج السلف الصالح - وهم القرون الثلاثة الأولى - فى باب العقيدة على الأقل.
وإن من نافلة القول أن نذكر أن «الأشاعرة» يعتدون بعقولهم فإنهم يقدمونها على النصوص، الثابتة المستقرة، كما يأتى ذكره الآن.
وقد وصل الأستاذ - بهذا المنهج - إلى دركة فى غاية القبح فى رده النص الثابت برأيه الفاسد.
ومن أمثلة ذلك أن مسلماً روى فى «صحيحه» (510 - 265) عن أبى ذر رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا قام أحدكم يصلى، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود». قال الراوى عن أبى ذر وهو عبد الله بن الصامت: قلت: يا أبا ذر! ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخى! سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما سألتنى، فقال: «الكلب الأسود شيطان»!!.
فبماذا علق الأستاذ على الجملة الأخيرة من هذا الحديث؟
قال فى كتابه الذى نرد عليه (ص 129): «والكلاب أبيضها وأسودها سواء»!!
فلست أجد رداً على الأستاذ أبلغ من قوله نفسه (ص 120) عن أحد الناس: «قبحك الله من داع أعمى البصيرة، ما لديك شىء من فقه الإسلام، ولا من أدب الدعوة، ومثلك لا يزيد الأمة إلا خبالاً باسم السنة، والسنة منك براء».
فإذا كان أبو ذر استشكل تخصيص الكلب الأسود بالذات فى أنه يقطع الصلاة، وسأل: ما الفرق بين الكلب الأسود، والأحمر، والأصفر وكلها كلاب، فأجابه النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم إجابة واضحة صريحة فى التفرقة، فقال: «الكلب الأسود شيطان».
أفهناك إنسان مسلم، فضلاً عن «داعية»!! كالأستاذ يقول بعد هذا البيان: لا يا رسول الله! فالكلاب كلها سواء، لا فرق بين أسود، ولا أحمر، ولا أصفر؟!.
وماذا يقال عن هذا الإنسان؟!
أنا أقول ما قاله رب العزة فى كتابه المجيد: «فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم».
فقد رأى الأستاذ بفهمه «الثاقب» وإن شئت فقل «المثقوب»! وعقله «الكبير» أن الكلب الأسود ليس شيطاناً بدليل أننا نراه كلباً، ولو شرحنا جسده وجسد كلب أبيض لوجدناهما سواء، فكيف يكون شيطاناً؟! وقد صرح هو بهذا الكلام المتهافت فى أكثر من موضع من كلامه. وهذا يريك أنه يقدم عقله «الكبير» على النصوص الثابتة عند جميع أئمة المسلمين. وهذا هو منهج الأشاعرة الذى يتبناه الأستاذ وينافح عنه بغير أن يسميه.
ولعل الأستاذ يرد أيضاً ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن المؤمن يأكل فى معى واحد، وإن الكافر يأكل فى سبعة أمعاء». فلعل الأستاذ يقول: كيف هذا وجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم ليس لأحدهم إلا «معى» واحد؟! ولا يوجد فى بطن أحدهم «أمعاءان» فضلاً عن سبعة؟! أما الجواب الصحيح، فهو أن الله تبارك وتعالى يبارك للمؤمن فى طعامه بحيث لو أكل اليسير من الطعام فإنه يملأ أمعاءه ويشبه به. بخلاف الكافر، فإنه لو أكل أكلاً كثيراً وقدر أنه يملأ سبعة أمعاء، فإنه لا يشبع، ويوضح هذا حديث أبى هريرة الذى رواه البخارى (9/536 - فتح) أن رجلاً كان يأكل أكلاً كثيراً، فأسلم فكان يأكل أكلاً قليلاً، فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: «إن المؤمن يأكل فى معى واحد، والكافر يأكل فى سبعة أمعاء».
ووقع فى رواية مسلم، من حديث أبى صالح عن أبى هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ضاف ضيفاً وهو كافر، فأمر له بشاة فحلبت، فشرب حلابها، ثم أخرى، ثم أخرى حتى شرب حلاب سبع شياة، ثم إنه أصبح فأسلم، فأمر له بشاة فشرب حلابها، ثم بأخرى فلم يستتمها.. فقال: «إن المؤمن يأكل.. الحديث» ولذلك قال الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (9/537): «أطبق العلماء على حمل الحديث على غير ظاهره».
ولعل الأستاذ يرد أيضاً ما أخرجه مسلم فى «صحيحه» أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن المرأة تقبل فى صورة شيطان، وتدبر فى صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة أعجبته، فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما فى نفسه».
فيقول الأستاذ: كيف تكون المرأة فى صورة شيطان، وهى آدمية أمامنا لايشك فى هذا أحد؟!
ويعترض الأستاذ على النصوص بمثل هذا الفهم «الثاقب»، والجواب ما ذكره العلماء أن الحديث يشير إلى الهوى والدعاء إلى الفتنة بالمرأة لما جعله الله تعالى فى نفوس الرجال إلى الميل إلى النساء والالتذاذ بالنظر إليهن وما يتعلق بهن، فهى شبيهة بالشيطان فى دعائه إلى الشر بوسوسته وتزيينه له. ولذلك قال النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما تركت بعدى فتنة أضر على الرجال من النساء» وأنت ترى كثيراً من المبتلين بالنظر إلى النساء، يرى - من فرط شهوته - المرأة الدميمة فى غاية الجمال، ولا يفطن إلى هذه الحقيقة إلا بعد أن يفرغ شهوته.
ولعل الأستاذ يعترض على ما رواه البخارى فى «الأدب المفرد» وكذا أبوداود من حديث أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى رجلاً تتبع حمامة، فقال: «شيطان يتبع شيطانة»، وهو حديث حسن، وصححه جماعة من أهل الحديث.
فيقول الأستاذ: كيف يكون الرجل والحمامة شيطانين، والرجل رجل، والحمامة حمامة؟! أتريدون أن تجعلونا ضحكة للشرق والغرب وتصدوهم عن الدخول فى الإسلام بمثل هذه الروايات التى لا يتصورها «العقل»؟!
ومعنى الحديث عند جماعة العلماء أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم سمى الرجل الذى تتبع الحمامة لاعباً بها شيطاناً لمباعدته عن الحق واشتغاله بما لا يعنيه، وسماها شيطانة لأنها أورثته الغفلة عن ذكر الله تبارك وتعالى وأنت مازلت تسمع الناس يطلقون لفظة «شيطان» على من يغوى الناس ويضلهم. وقد قال الله تبارك وتعالى: «شياطين الإنس والجن»، وهناك عشرات الأحاديث الصحيحة كهذه التى ذكرت، لو أجرى الأستاذ «عقله» بدون النظر إلى «عقول» علماء المسلمين لردها، وهذا هو واقعه الأليم.
أما حديث «الكلب الأسود شيطان» فيأتى تفسيره فى موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
فالمعروف أن مصدر التلقى عند «الأشاعرة» هو العقل، وقد صرح بذلك الجوينى، والفخر الرازى والبغدادى، والغزالى والآمدى والسنوسى، وسائر شراح «الجوهرة»، فلو تعارض النقل مع العقل، فإن العقل يقدم على النقل.
بل صرح بضعهم وهو السنوسى بأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة أصل من أصول الكفر!!
فقال: «أصول الكفر خمسة.. فذكرها، ثم قال: السادس: التمسك فى أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية» وقد وضع الفخر الرازى ضوابط هذا المنهج «العقلى» فى «أساس التقديس»، فقال: «الفصل الثانى والثلاثون فى أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر النقلية فكيف يكون الحال فيها؟!
قال: أعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شىء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك، فهناك لا يخلو الخال من أحد أمور أربعة:
الأول: إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل، فيلزم تصديق النقيضين، وهو محال.
الثانى: وإما أن يبطل، فيلزم تكذيب النقيضين، وهو محال.
الثالث والرابع: وإما أن يصدق الظواهر النقلية، ويكذب العقل وذلك باطل، لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع، وصفاته، وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وظهور المعجزات على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولو جوزنا القدح فى الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهماً غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول فى هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة، فثبت أن القدح فى العقل لتصحيح النقل يفضى إلى القدح فى العقل والنقل معاً، وأنه باطل ولما بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة، بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال إنها غير صحيحة، أو يقال: إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها، ثم إن جوزنا التأويل، اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى، فهذا هو القانون الكلى المرجوع إليه فى جميع المتشابهات، وبالله التوفيق».
ومن المآخذ التى أخذت على الرازى أنه يورد شبه المخالفين فى المذهب والدين فى غاية ما يكون من التحقيق ثم يورد مذهب أهل السنة والحق فى غاية من الوهاء وراجع «لسان الميزان» (4/428) وقد قطع الرازى فى كتابه السابق بأن رواية الصحابة كلها مظنونة بالنسبة لعدالتهم وحفظهم سواء، وأنه فى «الصحيحين» أحاديث وضعها الزنادقة، وانطلى أمرها على أهل السنة، وقال كلاما فى غاية السقوط وطريقة الأستاذ قريبة من هذه، وهو قد اعترض على عشرات الأحاديث التى رواها الشيخان أو أحدهما، رغم أنه ليس من المتخصصين، ولكنها الجرأة باسم التحقيق العلمى!
أما فى جانب تحرى الحق بدليله فى الفتوى فللأستاذ فيه رأى عجيب جدا - أداه إليه عقله «الكبير»! - وهو أنه إذا وجد رأيين فى مسألة، فيأخذ بالرأى الأقرب إلى أهواء الناس!، على اعتبار أنه رأى صدر من عالم، وهم جميعا مصيبون.
وقد صرح به فى كتابه الذى نرد عليه، فقال «ص 51-52»: «وإذا كان الفقهاء المسلمون قد اختلفت وجهات نظرهم فى تقدير حكم ما، فإنه يجب علينا أن نختار للناس أقرب الأحكام إلى تقاليدهم، والمرأة فى أوروبا تباشر زواجها بنفسها، وليست مهمتنا أن نفرض على الأوروبيين مع أركان الإسلام رأى مالك أو ابن حنبل إذا كان رأى أبى حنيفة أقرب إلى مشاربهم، فإن فى هذا تنطعا أو صدا عن سبيل الله».
قلت: وقد بنى الأستاذ رأيه هذا إما على القول المعروف «كل مجتهد مصيب»، وإما على جواز تتبع رخص المذاهب من باب التيسير على الناس، وكلا الأمرين خطأ بلا شك.
أما أن كل مجتهد مصيب، فهو قول أوله سفسطة وآخره زندقة، كما قال الأستاذ أبوإسحق الأسفرايينى رحمه الله.
أما تتبع رخص المذاهب فقد منعه جمع غفير من العلماء بل لا أعلم عالما أفتى بجوازه، وقد عزى إلى الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: «إذا أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله».
ورأى الأستاذ أننا إذا أردنا أن نزوج امرأة أوروبية مثلا، فليس لنا أن نوقف الزواج طلبا للولى إذا كان عرفهم هو النكاح بغير الولى، وإذا وقع لنا نفس الأمر فى بلد آخر لا يزوجون إلا بالولى وافقناهم على ذلك، وهذا كله من الإسلام، وقد أفتى بالرأى الأول فلان، وبالثانى علان!
ولاشك أنه لا يجوز الزواج بغير إذن الولى وليس للأحناف حجة ناهضة البتة فى ذلك على ما يأتى تفصيله، وهذا هو حكم الإسلام رضى به من رضى، وسخط به من سخط.
وقد قال أبوالوليد الباجى- كما فى «الاعتصام»(4/140): وأخبرنى رجل عن كبير من فقهاء هذا الصنف - يعنى الذين يتتبعون رخص المذاهب- مشهور بالحفظ والتقدم أنه كان يقول معلنا غير مستتر: إن الذى لصديقى علىَّ إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التى توافقه، قال الباجى: وكثيرا ما يسألنى من تقع له مسألة من الإيمان ونحوها: «لعل فيها رواية؟» أو «لعل فيها رخصة؟» وهم يرون هذا من الأمور الشائعة الجائزة، ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طالبوا به ولا طلبوه منى ولا سواى، وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين ممن يعتد به فى الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتى فى دين الله إلا بالحق الذى يعتقد أنه حق رضى بذلك من رضيه وسخطه من سخطه، وإنما المفتى مخبر عن الله تعالى فى حكمه..».
قلت: وقد وقع بينى وبين الأستاذ مجادلة- وهى مسجلة- منذ نحو عشر سنين فى «مسجد النور» بالعباسية، حول جواز دخول كلية الفنون الجميلة، وكلية الفنون التشكيلية وكلية السياحة والفنادق، وغيرها فأفتى الأستاذ على المنبر بالجواز، وكان مما قاله: نريد المسلمين فى جميع مناحى الحياة.. فلم أتمالك أن ذكرت للأستاذ فى بحث موجز حقيقة ما يجرى فى هذه الكليات وأنه لا يمت للإسلام بصلة البتة، ففى كلية الفنون الجميلة أو التشكيلية تقف امرأة عارية كما ولدتها أمها أمام الشباب ليرسموا صورتها على كل وضع، على بطنها وعلى ظهرها وعلى جنبها ويسمون هذا فنا!، وفى كلية السياحة والفنادق يعلمونهم الفرق بين الخمور المختلفة، وما هى أفضل الطرق لتقديم الخمور «للزبون» إلى آخر هذه الموبقات التى لا يبيحها من شم رائحة الإسلام لمخالفتها للنصوص الثابتة، وكنت أظن أن هذا كاف لأن يرجع الأستاذ عن فتواه، فلقد أسقط فى يدي، عندما سمعته يقول: «أنا مازلت عند رأيى، وأنا تبع فى ذلك لأساتذتى، ولم آت بشىء من عندى!
أرأيتم إلى هذا التحقيق «المتين» «الرائع» الذى أدلى به الأستاذ؟! قال: أنا تبع فى ذلك لأساتذتى، وكأن كلام شيوخه هؤلاء هو وحى السماء! ولذلك لم أنزعج لما أخبرنى أحد الأخوة - المتعصبين جدا للأستاذ - أنه كان فى زيارة له فى بيته مع لفيف من طلبة الجامعة فإذا بالتماثيل موجودة على مكتبه فهذا أسد، وهذا طائر.. إلخ، مع أن جميع علماء المسلمين المعتبرين يتفقون على تحريم الصور التى لها ظل ولكنهم اختلفوا فيما لا ظل له، فلم يعبأ الأستاذ برأى هؤلاء العلماء، لأنه ربما وجد رأيا يبيح ذلك، فهو يأخذ به بلا أدنى تحرج، ولهذا لا يرى أدنى ريبة أن يلتحق الطالب بكلية الفنون الجميلة أو التشكيلية!
وأطرف ما فى فتوى الأستاذ قوله: «نريد المسلمين فى جميع مناحى الحياة»، على قاعدة من يقول: «نريد الطبيب المسلم والمهندس المسلم» ولربما قال: والموسيقى المسلم، والراقص المسلم، والطبال المسلم.. إلخ.
فالحكم لله العلى الكبير.
3- أنه يقلب الحقائق، ولا أزعم أنه يفعل ذلك عمدا فإن حسن ظنى به يدفعنى إلى رده، ولكن غلبه ما يجد من مخالفيه، فأساء التصرف فى نقله.
ومن أمثلة ذلك قوله(ص-19): «وأهل الحديث يجعلون دية المرأة على النصف من دية الرجل، وهذه سوءة فكرية وخلقية، رفضها الفقهاء المحققون، فالدية فى القرآن واحدة للرجل والمرأة، والزعم بأن دم المرأة أرخص، وحقها أهون زعم كاذب مخالف لظاهر الكتاب».
قلت: فلو كان الأستاذ منصفا أو يتحرى العدل، لسمى لنا واحدا أو أكثر ممن قال بذلك من المحدثين ولو سمى لنا واحدا أو أكثر لما جاز له أن يقول: «أهل الحديث» هكذا على التعميم، والواقع إن هذا القول الذى ألصقه بالمحدثين، هو قول عامة الفقهاء وسأكتفى فى هذا الموضع بنقل واحد يبين ما وقع فيه الأستاذ من البهتان، والرد التفصيلى فى موضعه - إن شاء الله.
قال ابن قدامة فى «المغنى»(7/797): «قال ابن المنذر، وابن عبدالبر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل، وحكى غيرهما عن ابن علية والأصم أنهما قالا: ديتها كدية الرجل، لقوله عليه السلام: «فى نفس المؤمنة مائة من الإبل»، وهذا قول شاذ يخالف إجماع الصحابة وسنة النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن فى كتاب عمرو بن حزم: «دية المرأة على النصف من دية الرجل»، وهى أخص مما ذكروه، وهما فى كتاب واحد، فيكون ما ذكرنا مفسرا لما ذكروه، مخصصا له، ودية نساء كل أهل دين، على النصف من دية رجالهم على ما قدمنا فى موضعه».
قلت: «فهذا ابن قدامة ينقل الاجماع على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، وقد وصفه الأستاذ (ص-42) بأنه مرجع حنبلى وابن المنذر من أئمة الشافعية، وابن عبدالبر من فحول المحققين من المالكية، وكل واحد منهم ينقل الإجماع، ولسوء حظ الأستاذ أنهم جميعا معدودون من الفقهاء! فأين ما بهت به الأستاذ المحدثين؟!
4- أنه يكثر من الاعتراض على أقوال العلماء بغير حجة، ولا بينة والمعروف أن مجرد الدعوة لا تصلح فى محل النزاع، وإلا فهذا يحسنه كل أحد.
فمثلا هو لما رد كلام ابن خزيمة والمازرى وغيرهما، قال: «وهذا الدفاع كله خفيف الوزن وهو دفاع تافه لا يساغ..» إلخ.
لم يذكر لنا ما هى الحجة فى رد كلامهم وأين موضع الخفة فيه؟! مع أنه فى معترك مع خصوم أقوياء، وكل كتابه على هذه الوتيرة، فأنى يقبل منه؟
وهذا مما قوى عندى الزعم بأن كتابه «نفثة مصدور»، وما كان «محاكمة علمية» لا ختلاف الأدلة قط.
5- أنه رد جمهرة كبيرة من الأحاديث الصحيحة لمجرد أنه رأى أنها لا تستقيم وفهمه، فتجرأ كثيرون خلفه على هذا المسلك المعيب فردوا كل حديث يخالف عقولهم بزعم أنه يتعارض مع ظاهر آية، أو مع حديث آخر.
ولو رد كل إنسان جملة من الأحاديث التى لا تستقيم وفهمه لما بقيت السنة النبوية بين أظهرنا، فما يراه الأستاذ صحيحا يراه غيره خطأ.. وهكذا.
وهذا المسلك هو أفحش ما وقع للأستاذ وقد قال هو(ص-50): «وكل ما أبغى هو تفسير حديث ورد فى الكتب، ومنع التناقض بين الكتاب وبعض الآثار الواردة، أو التى تفهم على غير وجهها».
قلت: ليت الأستاذ وقف عند هذا القول، ولكن تصرفه فى كتابه كله ينقضه نقضا ذريعا.
فكل ما أورده من اختلاف الأدلة، قد أجاب العلماء عنها إجابات شافية قوية، على نحو ما ستراه فى هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، فأعرض عنها كلها، وليته إذ أعرض أتى بما يدفع أدلتهم، فإن هذا أرجى لقبول العذر، وأخف للذم، ولكنه لم يفعل، فذمه مخالفه ولم يقبل عذره، لأنه رآه يعترض بالهوى والتشهى وليس بالعلم، وإلا:
فالدعاوى ما لم تقيموا عليها.. بينات أصحابها أدعياء.
وقد قال ابن عبدالبر فى «التمهيد» (17/267) «وليس يسوغ عند جماعة أهل العلم الاعتراض على السنن بظاهر القرآن، إذا كان لها مخرج ووجه صحيح، فإن السنة مبينة للقرآن، قاضية عليه، غير مدافعة له».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
«والذين يعطلون شيئا من الأحاديث ويقدمون عليها الاجتهاد والقياس وظاهر القرآن، عملهم منكر».
وقد صنف الإمام أحمد- رحمه الله- كتابا فى وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يرد به على الذين يأخذون بظاهر القرآن، ويردون الأحاديث النبوية.
6- أنه لم يتأدب فى خطابه مع الأئمة الأعلام فعضهم بنابه، وعذمهم وأطلق لسانه فيهم لمجرد أنه لم يفهم بعض عباراتهم، وقد تألم الأستاذ (ص-11) من الكتاب أن بعض الأحداث من الغلمان الذين لم تقلم أظفارهم فى العلم يطعنون على مالك وأبى حنيفة رحمهما الله تعالى لأنهما خالفا بعض السنن، وكان الواجب أن يوقروهما التوقير البالغ لإمامتها فى العلم والعمل ونحن مع الأستاذ تماما فى هذا، وننكر أشد الإنكار أن يتطاول أحد على أئمتنا، فيجب أن نذكرهم بالجميل، وأن نعذرهم إن أخطأوا، ولكن كيف يفعل الشباب ذلك، والأستاذ- وهو داعية مشهور - قد تطاول على كثير من العلماء فى كتابه هذا وفى غيره بدعوى النقد العلمى؟! وهل النقدالعلمى ينافى الأدب مع المخالف، لا سيما إن كان المخالف يزن كثيرا جدا من أمثال الأستاذ؟!
وإليك أمثلة من مناقشات الأستاذ:
فيقول(ص-87): «وهل يستغنى البشر عن البيوت؟ من أجل ذلك استغربت ما رواه الشيخان عن خباب بن الأرت، وهو: «إن أصحابنا الذين سلفوا ومضوا لم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب، ثم يقول: إن المسلم يؤجر فى كل شىء ينفقه إلا فى شىء يجعله فى هذا التراب»، وكلام خباب رضى الله عنه عليه مسحة تشاؤم غلبت عليه لمرضه الذى اكتوى منه، ولا يجوز أن نعد البناء رذيلة، فقد يكون فريضة».
قلت: فقوله عن خباب رضى الله عنه: «عليه مسحة تشاؤم غلبت عليه» قول لا يليق أن يلصق بصحابى جليل من السابقين الأولين، لا سيما وقوله الذى قاله، إنما قاله وهو صحيح معافى.
وهذا السياق كما رواه البخارى فى «صحيحه»(10/12-فتح): عن قيس بن أبى حازم قال: «دخلنا على خباب نعوده - وقد اكتوى سبع كيات- فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا ومضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب، ولولا أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به» ثم اتيناه مرة أخرى وهو يبنى حائطا له، فقال: «إن المسلم يؤجر فى كل شيء ينفقه»، إلا فى شىء يجعله فى هذا التراب».
قلت فسياق الحديث يريك أن خباب بن الأرت رضى الله عنه يوم قال هذه العبارة كان صحيحا، ثم أن قوله هذا لا يحمل بطبيعة الحال على الذى يبنى دارا ليسكن فيها، وإنما هو محمول على ما زاد على الحاجة كما قال الحافظ وغيره.
وكان يمكن للأستاذ أن يسعه هذا الحمل كما وسع غيره من العلماء الأعلام، لاسيما وهو قد استخدم هذه الطريقة فى ذات الصفحة فقال: «ولو بنينا ناطحات سحاب وعمرنا غرفاتها بالتسبيح والتحميد لتقبل الله منا، أما بناء دار صغيرة، والتقلب داخلها بطرا وكبرا فذاك مما لا خير فيه، وهذا ما نفسر به حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «النفقة كلها فى سبيل الله إلا البناء، فلا خير فيه».
فحمل الأستاذ معنى حديث أنس على وجه مقبول عنده - برغم ضعف الحديث كما يأتى - فلا أدرى والله! ما منعه أن يحمل كلام خباب رضى الله عنه على هذا المحمل بدلا من أن يصفه بالتشاؤم؟!
ومما يؤخذ على الأستاذ أيضا قوله (ص-118): «ومن زعم أن السنة تقضى على الكتاب، أو تنسخ أحكامه، فهو مغرور».
قلت: وقد قال جماعة من السلف: «إن السنة تقضى على الكتاب» منهم مكحول، ويحيى بن أبى كثير، والأوزاعي، والدارمي، وابن عبدالبر فى آخرين.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن الحديث الذى روى أن السنة قاضية عن الكتاب فقال: ما أجسر على هذا أن أقوله إن السنة قاضية على الكتاب وإن السنة تفسر الكتاب وتبينه فيظهر أن مراد الإمام أنه ما يجسر على إثبات الحديث، وهو لم يصح مرفوعا على كل حال، وقد يكون مراده أنه ما يجسر على ذكر اللفظ الذى يشعر أن السنة مقدمة على الكتاب، وعدل إلى لفظ آخر يؤدى نفس المراد الذى أراده العلماء السالفون من قولهم: إن السنة تقضى على الكتاب، فالمسألة لفظية فحسب ومعنى هذا القول إن الآية تأتى فى كتاب الله عز وجل تحتمل أمرين أو أكثر من ذلك، فتأتى السنة بتعيين أحدهما، فيرجع إلى السنة ويترك مقتضى الكتاب، أو أن السنة تقضى لأحد المعنيين على الآخر، فهى لذلك قاضية على الكتاب.
ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل:
«والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» فقد اختلف العلماء من أصحاب النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم وغيرهم فى تفسير معنى «القرء» هل هو حيض أم طهر؟!
فذهب أهل الكوفة إلى أنه حيض، وهو قول عمر، وعلى وابن مسعود وأبى موسى، ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدى وأبى حنيفة وآخرين، وقال أهل الحجاز: هى طهر وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت وأبان بن عثمان والزهرى والشافعى وقد دلت اللغة على أن «القرء» يطلق على الحيض وعلى الطهر، فيصير مشتركا وقد يكون أعم من ذلك.
فأردنا الترجيح لأحد القولين على الآخر، فعمدنا إلى السنة فوجدنا أن عائشة رضى الله عنها قالت: «إن أم حبيبة بنت جحش التى كانت تحت عبدالرحمن بن عوف وأنها استحيضت لا تطهر، فذكر شأنها لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: «إنها ليست بالحيضة، ولكنها ركضة من الرحم، فلتنظر قدر قرئها التى كانت تحيض لها، فلتترك الصلاة، ثم تنظر ما بعد ذلك فلتغتسل عند كل صلاة».
أخرجه أبوداود «280» والنسائى «1/120،121»، والترمذى «129»، وابن ماجة «620»، والدارمى «1/164»، وأحمد «6/129، 420، 463» والبيهقى «1/331» من طرق عن عائشة به وهو حديث صحيح، ولفظ ابن ماجة: «إنما ذلك عرق، فانظرى إذا أتى قرؤك فلا تصلي، فإذا مر القرء، فتطهرى، ثم صلى ما بين القرء إلى القرء».
قلت: فأمرها النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تترك الصلاة أيام «أقرائها» يعنى حيضها فدل ذلك على أن القرء حيض، فهذا المثال الذى ذكرته- ومئات مثله - يبين لنا أن السنة قضت لأحد المعنيين على الآخر، وهذا معنى أن السنة قاضية على الكتاب، وليس فيه أى معنى يستنكر، حتى يتجرأ الأستاذ جرأة غير محمودة فيزعم أن من قال ذلك فهو مغرور، فاللهم غفرا!
ومما يؤخذ على الأستاذ أيضا قوله (ص-9) «ومن وصم منكر الحديث بالإلحاد، فهو يستطيل فى أعراض المسلمين».
قلت: عنى الأستاذ بذلك المازرى رحمه الله، إذ قال: «وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث وأنكر تصوره، قالوا: كيف يجوز على موسى فقء عين ملك الموت..» فأنت ترى المارزى فى واد والأستاذ فى واد آخر، لأن المازرى يقول: «إن بعض الملاحدة أنكر»، ولم يقل: «إن منكر الحديث ملحد»، فقد أتى الأستاذ من فهمه:
ومن يك ذا فم مر مريض.. يجد مرا به العذب الزلالا.
ومما يؤخذ على الأستاذ أيضا قوله(ص-114): «قرأت خمسين حديثا ترغب الفقر وقلة ذات اليد.. كما قرأت سبعة وسبعين حديثا ترغب فى الزهد فى الدنيا.. وقرأت سبعة وسبعين حديثا أخرى فى عيشة السلف وكيف كانت كفافا، ذكر ذلك كله المنذرى فى كتابه «الترغيب والترهيب»، وهو من أمهات كتب السنة، ورحم الله المؤلف الحافظ وغفر لنا وله، فهو حسن النية ناصح للأمة، بيد أن الفقه الصحيح يقتضى منهجا آخر، ومسلكا أرشد».
قلت: فالأستاذ يرى أن المنذرى لما ذكر هذه الأحاديث فى كتابه كان «حسن النية» ولكن ينقصه الفقه والعلم، إذ أورد ما يوهم أن امتلاك الدنيا، والسعى على احرازها لم يرغب فيه الشارع، فهو بهذا يفتح الباب للكسالى أن يتقاعسوا بدعوى الزهد فى الدنيا.
وليس فى صنيع المنذرى ما يومىء إلى ما أراده الأستاذ، لا سيما وقد أجاب الأستاذ عما أورده المنذرى من أحاديث فى الزهد فقال: «والواقع أن هذه المرويات تساق فى مجال محدد، لهدف محدد، وهى جرع من أدوية يتناولها الإنسان حتى لا يكون منهوما بالدنيا».
فإن كان الأستاذ قد وجه معنى هذه المرويات على النحو الذى ذكر، فما معنى قوله: «بيد أن الفقه الصحيح يقتضى منهجا آخر» حتى يعرض بالحافظ المنذري، يرميه بقلة الفقه؟!
ومما يؤخذ على الأستاذ أيضا قوله (ص - 98): «وما يرويه صاحب «آكام المرجان فى أحكام الجان» أكثر خرافات وخيالات وإن ذكره ابن حنبل وابن تيمية وغيرهما».
قلت: لو طعن فى نسبة ذلك إليهما، لاحتمل أن يكون لما قاله وجه، أما أن يزعم أن ابن حنبل وابن تيمية ممن تروج عليهما الخرافة، فهذا على الأقل من عدم معرفته بقدرهما فى الفهم والعلم.
ومما يؤخذ عليه أيضا قوله (ص-127): «.. وبعض المرضى بالتجسيم هو الذى يشيع هذه المرويات، وإن المسلم الحق ليستحيى أن ينسب إلى رسوله هذه الأخبار».
قلت: والذى أشاع هذه المرويات هو البخارى ومسلم، وأحمد ابن خزيمة، ومحمد بن نصر، وآخرون كثيرون - كما يأتى - أهؤلاء هم المرضى بالتجسيم يا أستاذ؟! وقد كانوا - والله - أعلم بالله ورسوله منك.
فهذه الأمثلة التى ذكرها الأستاذ تظهر لنا «أدبه» الرفيع وقد قال النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه».
وهو حديث حسن أخرجه أحمد والحاكم من حديث عبادة بن الصامت.
ومما يؤخذ على الأستاذ أيضا قوله بعد أن ذكر بعض الأحاديث الصحيحة فى تخيير البكر وعدم إجبارها على أن تنكح من تكره، قال: «ومع هذا فإن الشافعية والحنابلة أجازوا أن يجبر الأب ابنته البالغة على الزواج بمن تكره، ولا نرى وجهة النظر هذه إلا انسياقا مع تقاليد إهانة المرأة، وتحقير شخصيتها».
قلت: كذا قال الأستاذ إن وجهة نظر الشافعية والحنابلة جاءت انسياقا مع التقاليد، وليست عن تحقيق علمى، وهذا طعن فى هؤلاء العلماء الأفاضل لا يليق بالأستاذ ارتكابه، ونحن وإن كنا مع الأستاذ فى عدم الإجبار، ولكن المخالفين لهذا الرأى ذكروا لهم أدلة، وهى وإن كانت مرجوحة، إلا أنهم استفرغوا الوسع- وهذا الظن بهم - فى طلب الحق، فأهدر الأستاذ ذلك وللشافعى - رحمه الله - فى كتاب «الأم» بحث أداه إليه اجتهاده وفهمه للنصوص، يدل على أنه ما انساق وراء التقاليد، وأما أحمد فله روايتان فى ذلك:
الأولى: أنه يجبرها، وهذا مذهب مالك وابن أبى ليلى، والشافعى واسحاق بن راهويه، وهو اختيار الخرقى والقاضى وأصحابه.
الثانية: أنه يجبرها، وهو مذهب أبى حنيفة، والأوزاعى والثورى وأبى عبيد وأبى ثور، واختاره القاضى أبو بكر عبدالعزيز بن جعفر وهو الذى رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة، وسيأتى تفصيل المسألة فى موضعها إن شاء الله تعالى.
7- أنه لم يتحر الحق والعدل فى عرض أدلة مخالفيه، فمثلا عند كلامه على الغناء أتى على الأحاديث المعلولة وشرع ينقل كلام ابن حزم عليها، وأعرض عن ذكر الأحاديث الصحيحة فى الباب، وهى كثيرة.
8- أنه فى نزاعه مع المحدثين، احتج عليهم بأحاديث ضعيفة، وكم له فى سائر كتبه من مثل هذا، برغم تشدقه بالتزام المنهج العلمى فى النقل!
وقد قال الأستاذ: «والذى يدخل ميدان التدين، وبضاعته فى الحديث مزجاة، كالذى يدخل السوق ومعه نقود زائفة، فلا يلومن إلا نفسه إذا أخذته الشرطة مكبل اليدين».
وقال الأستاذ (ص 39 - 40) «ويدل على ما ذكرنا أن امرأة جاءت إلى النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقال لها «أم خلاد» وهى منتقبة تسأل عن ابنها الذى قتل فى احدى الغزوات. فقال لها بعض أصحاب النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟! فقالت: إن أرزأ ابنى فلن أرزأ حيائى!. واستغراب الأصحاب لتنقب المرأة دليل على أن النقاب لم يكن عبادة».
قلت: وهذا حديث ضعيف منكر.
أخرجه أبوداود (2488)، وأبويعلى (ج3 / رقم 1591)، والبيهقى (9/175) من طريق فرج بن فضالة، عن عبدالخبير بن ثابت ابن قيس بن شماس، عن أبيه، عن جده، قال.. فذكره.
قال الحافظ فى «التهذيب»: «وقع عند أبى داود: عبدالخبير بن ثابت بن قيس بن شماس، والصواب ما ذكره المؤلف، يعنى صوابه: عبدالخبير بن قيس بن ثابت، فإن قيس بن شماس لا صحبة له» .
وقد وقع نسبه عند أبى يعلى على الصواب. وهذا سند ضعيف، وله علتان:
الأولى: ضعف فرج بن فضالة.
الثانية: قال البخارى فى «التاريخ الكبير» (3/2/137): «عبدالخبير، عن أبيه، عن جده.. حديثه ليس بالقائم».
وروى ابن عدى فى «الكامل» (5/1985) ما قاله البخارى، ثم قال: «وعبدالخبير ليس بالمعروف، وإنما أشار البخارى إلى حديث واحد» فالظاهر أنه يعنى هذا الحديث.
وقال أبوحاتم: «حديثه ليس بالقائم، منكر الحديث» نقله عنه ولده فى «الجرح والتعديل» (3/1/38)، وكذا قال الحاكم أبوأحمد. ونقل الحافظ عن ابن عدى أنه قال: «منكر الحديث». ولم أجد هذه العبارة فى «الكامل». والله أعلم.
2 - قال الأستاذ (ص87): «وهذا ما نفسر به حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: النفقة كلها فى سبيل الله، إلا البناء فلا خير فيه».
قلت: وهو حديث ضعيف.
أخرجه الترمذى (2482)، وابن أبى الدنيا فى «قصر الأمل» (ج2/ق21/2)، وابن عدى فى الكامل (3/1087) من طريق زافر ابن سليمان، ثنا إسرائيل، عن شبيب بن بشر، عن أنس بن مالك مرفوعاً.. فذكره.
قال الترمذى: «حديث غريب»، وزافر بن سليمان ضعفه النسائى، وأبوزرعة، والساجى، وابن عدى، وابن حبان، ووثقه ابن معين وغيره، ولخص الحافظ حاله فقال: «صدوق كثير الأوهام» وكذا شبيب بن بشر، فى حفظه لين.
قال الأستاذ (ص117 - 118): «ويبدو أن الطيش فى فهم المرويات، وسوء تقديرها مرض محذور العقبى من قديم. فقد روى الترمذى عن الحارث الأعور، قال: مررت فى المسجد فإذا الناس يخوضون فى الأحاديث، فدخلت على علىَّ رضى الله عنه، فأخبرته، فقال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: أما إنى سمعت النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «أما إنها ستكون فتن». قلت: وما المخرج منها يا رسول الله؟! قال: «كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله....» الحديث.
قلت: وسنده ضعف جداً.
الجزب الثالث
أخرجه الترمزى «2906» وأحمد «1/91» والدرامى «2/527» والبغوى وفى «شرح السنة» (4/437 - 438)، والشجرى فى «الأمالى» (1/91)، والخطيب فى «الفقيه والمتفقه» (1/55)من طريق الحارث الأعور، عن على به.
قال الترمذى «هذا حديث لا نعرفه الا من هذا الوجه، واسناده مجهول، وفى الحارث مقال».
قلت: والحارث الأعور واهٍ، فقد كذبه الشعبى، وأبوخيثمة وتركه ابن مهدى وقال إبراهيم النخعى: «اتهم»، وضعفه ابن معين فى رواية وأبوحاتم، وأبوزرعة، والنسائى فى رواية، وابن سعد فى آخرين، وعندى أن الحارث ليس بكذاب، وان كان واهيا.
وقال الحافظ ابن كثيرفى «فصائل القرآن» (ص 11-12): «والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما إنه تعمد الكذب فى الحديث فلا والله أعلم، وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين على رضى الله عنه وقد وهم بعضهم فى رفعه، وهو كلام حسن صحيح» اه.
قلت: ولا أراه يصح عن علىّ رضى الله عنه أيضا لعدم صحة الاسانيد بذلك إليه، والله أعلم.
وعلى فرض أن الحديث صحيح مرفوعا أو موقوفا، فليس للاستاذ فيه حجة أيضا، فإنه ظن أن المقصود بالاحاديث هنا، هى الاحاديث النبوية، وهذا فهم طريف يحسد الاستاذ عليه، لانه لا يمكن ان يستنكر على رضى الله عنه على أناس جلسوا يتذاكرون حديث النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويتدارسون الفقه الذى فيه مثلا إنما المقصود ب«الاحاديث» هنا، ما يتحدث به الناس من الباطل، قال المباركفورى فى «تحفة الاحوذى» (8/218): «قوله: يخوضون فى الاحاديث، أى أحاديث الناس وأباطيلهم من الاخبار، والحكايات، والقصص، ويتركون تلاوة القرآن وما يقتضيه من الاذكار والاثار، والخوض اصله الشروع فى الماء والمرور فيه وقوله «أو قد فعلوها» قال الطيبى: أى اتكبوا هذه الشنيعة وخاضوا فى الاباطيل؟» اه.
وليس الاستاذ بأول سار غره قمر! وفى كتابه أحاديث أخرى يأتى التنبيه عليها فى مواضعها، والله الموفق.
9- وهو مع احتجاجه بالاحاديث الضعيفة، يضعف الاحاديث القوية الثابتة.
1 فقد قال «ص40»: «قد يقال: إن ما روى عن عائشة يؤكد أن النقاب تقليد اسلامى، فقد قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات فاذا جاوزوا بنا سدلت احدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فاذا جاوزونا كشفناه» ونجيب بأن هذا الحديث ضعيف من ناحية السند، شاذ من ناحية المتن، فلا احتجاج به» اه.
قلت: وفى جوابه هذا مؤاخذات: فقوله «ضعيف من ناحية السند»، فكان عليه أن يبين مقدار هذا الضعف، هل ينجبر أو لا؟! لاسيما والاستاذ يأخذ بأحاديث اشد ضعفا من الحديث المذكور، وهى خطة عامة له فقد قال فى مقدمة «فقه السيرة» (ص 10): «قد يكون الحديث ضعيفا عند جمهرة المحدثين، لكنى أنا قد أنظر لمتن الحديث فأجد معناه متفقا كل الاتفاق مع آية من كتاب الله، أو أثرًا من سنة صحيحة، فلا أرى حرجًا من روايته ولا أخشى ضيرا من كتابته» اه.
قلت: فقوله: «عند جمهرة المحدثين» يشعر بشدة ضعف الحديث، ومع ذلك يأخذ به الاستاذ للعذر الذى أبداه، فلننظر فى اثر عائشة رضى الله عنها.
فأخرجه أبو داود (1833)، وابن ماجة (2935) وأحمد (6/30)، وابن خزيمة (4/203، 303)، وابن الجارود فى «المنتقى» (418)، والدراقطنى (2/294، 295) والبيهقى «5/48) من طريق يزيد بن ابى زياد، عن مجاهد، عن عائشة به.
قلت: ويزيد بن ابى زياد فيه مقال معروف من جهة أنه تغير فى اخر عمره، ومثل هذا الضعف يكون خفيفا عند جمهور المحدثين، ولا يكون شديدا الا بمرجحات أخرى، وهى غير موجودة، فمثله يتقوى حديثه ان وجد له شاهد وعلى مقتضى قول الاستاذ السابق، فأثر عائشة صحيح، لان له شاهدا من كتاب الله تعالى، واثرا صحيحا عن اسماء بنت ابى بكر رضى الله عنهما.
فاما الآية، فقول الله تبارك وتعالى: «يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن» (الأحزاب/ 59) وهذه الآية واضحة صريحة فى اثبات أن النقاب عبادة على الاقل فلا جرم أن الاستاذ لم يتعرض لها.
قال ابن عباس ترجمان القرآن : «أمر الله نساء المؤمنين اذا خرجن من بيوتهن فى حاجة ان يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة».
وقال محمد بن سيرين: «سألت عبيدة السلمانى عن قول الله تعالى: «يدنين عليهن من جلابيبهن)، فغطى وجهه ورأسه، وأبرز عينه اليسرى» والنقول فى ذلك كثيرة، فلا نطيل بها.
أما الاثر: فأخرجه مالك فى «موطئه» (1/328/16)، وابن خزيمة (ج4/ رقم 2690)، والحاكم (1/454) من طريق هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن اسماء قالت: «كنا نغطى وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك»، وسنده صحيح جدا.
فليس للاستاذ عذر فى تضعيف هذا الاثر، ثم هو ليس من أرباب هذه الصناعة وما أراه يكابر فى هذا فليعط القوس باريها، وحسبه أن يقلد غيره من المتمكنين فى هذا العلم، وهذا لا يغض من قدر الاستاذ فيما يحسنه، والله المستعان، ثم ان الاستاذ يقول فى اثر عائشة: «وهو شاذ من ناحية المتن».
وهذه دعوى خاطئة، فقد عرف الاستاذ الشذوذ (ص15) فقال: «والشذوذ أن يخالف الراوى الثقة من هو أوثق منه» فأنا أطالبه بأن يثبت لى الشذوذ فى هذا الحديث، ولن يجد اليه سبيلا، الا مجرد الدعوى كما هو دأبه، فلابد أن يكون مخرج الحديث واحدا بطبيعة الحال وأضرب لذلك مثلا حتى أكون عونا للاستاذ ان أراد البحث على فهم معنى الشذوذ، وكذلك لمن طالع كتابه، فظنه قد أصاب من الحديث مقتلا!
فأخرج أبوداود «1039»، والترمذى «395»، وابن خزيمة «2/134»، وابن حبان «536» وابن الجارود فى «المنتقى» (347)، والحاكم (1/323) والبيهقى (2/355)، والبغوى فى «شرح السنة» (3/297) من طريق محمد بن عبدالله الانصارى، ثنا اشعث بن عبدالملك، عن محمد بن سيرين، عن خالد الحذاء، عن ابى قلابة، عن أبى المهلب، عن عمران بن حصين، قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالناس، فسها فى صلاته، فسجد سجدتى السهو، ثم تشهد، ثم سلم».
قلت: وهذا السند وان كان ظاهره الصحة، فإن ذكر التشهد قبل السلام من سجود السهو شاذ.
فقد رواه جمع غفير عن خالد الحذاء بنفس السند، ولم يذكروا هذا التشهد، منهم: «شعبة، ووهيب، وابن علية، وهشيم، وحماد بنزيد، ومعتمر بن سليمان، ويزيد بن زريع، ومسلمة بن محمد، وغيرهم من الثقات».
أخرجه مسلم (574)، وأبو عوانة (2/198 - 199)، وأبو داود (1018)، والنسائى (3/26)، وابن ماجة (1215)، وأحمد (4/427) وكثير غيرهم ذكرتهم فى كتابى «النافلة فى الاحاديث الضعيفة والباطلة» (رقم 143) فليراجعه من شاء.
وليس الوهم من محمد بن سيرين، فإنه قد سئل: فالتشهد؟ - يعنى بعد سجود السهو قال: لم اسمع فى التشهد شيئا» اه.
وإنما الخطأ من اشعث، أو ممن دونه وقد قال البيهقى: «أخطأ أشعث فيما رواه».
وقال الحافظ فى «الفتح»: «زيادة أشعث شاذة» فهذه هى طريقة اثبات الشذوذ فى «المتن» أن تجمع الطرق، وألفاظ الحديث ثم تحكم بعد المقابلة، بما يقتضيه الحال، ثم نرجع الى ما كنا بصدده.
فمتى يكون الحديث الذى أعله الاستاذ بالشذوذ شاذا؟ اذا افترضنا أن يزيد بن أبى زياد خولف فى سنده أو فى متنه، فأما فى سنده، فقد رواه يزيد بن ابى زياد، عن مجاهد، عن عائشة. فخالفه مثلا أيوب السختيانى، فرواه عن مجاهد، عن «أم سلمة» بدلا من «عائشة» فتكون هذه علة، أو يرويه أيوب، عن مجاهد، عن عائشة مثل زياد تماما غير أنه يخالفه فيروى متنا آخر، أو جملة مخالفة فى المتن أو نحو ذلك، فمثل هذا هو الذى يتأتى الحكم عليه بالشذوذ، فهل يستطيع الاستاذ اثبات ذلك؟! انا لمنتظرون.
2 ومن ذلك قول الاستاذ (ص 107، 108): «وفى هذه الآونة استخرج البعض حديث: «بعثت بالسيف بين يدى الساعة، وجعل رزقى تحت ظل رمحى، وجعل الذل والصغار على من خالف أمرى».. قال الاستاذ: سأتجاوز عن ضعف الحديث من ناحية سنده، ولن أطعن فى صحته، مع أن الطعن وارد..» ا ه.
قلت: لو استطاع الاستاذ حقا أن يضعف سند الحديث لبادر الى ذلك، فهذا ايضا من دعواه التى تحتاج إلى برهان، لاسيما وهو فى موضع نزاع، فلا تقبل منه. ثم ان قوله: «ولن أطعن فى صحته» فهذا يعنى أن متنه «معلول» على مذهب الاستاذ «الفريد» فى معنى العلة! فلننظر فى الحديث سندا ومتنا.
فأخرجه أحمد (2/50، 92)، وعبد بنحميد فى «المنتخب» (848)، وابن الاعرابى فى «معجمه» (ج 6/ ق109/2) من طريق عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان، ثنا حسان بن عطية، عن أبى منيب الجرشى، عن ابن عمر مرفوعا فذكره وأخرجه البخارى (6/98) معلقا واقتصر على قوله:
«وجعل رزقى تحت ظل رمحى، وجعل الذل والصغار على من خالف أمرى».
وأخرج أبو داود (4031) الجملة الاخيرة وهى: «ومن تشبه بقوم، فهو منهم».
قال شيخ الاسلام ابن تيمية فى «الاقتضاء» (39): «هذا اسناد جيد».
وقال الحافظ العراقى فى «المغنى» (1/269): «اسناده صحيح»! وكذا صححه الشيخ أبوالاشبال (5114)، وشيخنا الالبانى فى «صحيح الجامع»، وكذا فى «الارواء» (1269) وحسنه الحافظ بن حجر فى «الفتح»، وهو الصواب وليس فى هذا الاسناد من يتكلم فيه غير عبدالرحمن بن ثابت فقد وثقه قوم وضعفه آخرون، وذكره الذهبى فى كتابه «ذكر من تكلم فيه وهو موثق» (203) وهذا يفيد تقويته ولم يتفرد به عبدالرحمن بل توبع فأخرجه الطحاوى فى «المشكل» (1/88)، قال: حدثنا أبوأمية، حدثنا محمد بن وهب، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا الاوزاعى، عن حسان بن عطية، عن أبى منيب الجرشى عن ابن عمر به ولكن خولف الوليد بن مسلم، خالفه ابن المبارك، فرواه عن الأوزاعى عن سعيد بن جبلة، قال: حدثنى طاووس مرسلا.
أخرجه القضاعى فى «مسند الشهاب» (390)، وهذا الوجه رجحه أبوحاتم كما فى «العلل» (ج1/ رقم 956) لولده وقد قال الحافظ فى «الفتح» (6/98): «وأخرجه ابن أبى شيبة من طريق الاوزعى عن سعيد بن جبلة عن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتمامه باسناد حسن» اه.
فلا شك فى أن الحديث حسن من جهة الاسناد اما من جهة متنه، فلكل فقرة من فقرات الحديث شواهد كثيرة، وقوله عليه الصلاة والسلام «وجعل رزقى تحت ظل رمحي» اشار الى الغنائم التى كانت من أعظم مصادر الغنى للمسلمين، فلكم خسر المسلمون بترك الجهاد فى سبيل الله وأرجو بعد هذا البيان ان يقلع الاستاذ عن دعواه.
10 انه غير دقيق فى نقله، فمن ذلك قوله (ص 1415): «وقد وضع علماء السنة خمسة شروط لقبول الاحاديث النبوية، ثلاثة منها فى السند، واثنان فى المتن:
1 فلابد فى السند من راو واع، يضبط ما يسمع ويحكيه بعدئذ طبق الاصل.
2- ومع هذا الوعى الذكى، لابد من خلق متين، وضمير يتقى الله، ويرفض أى تحريف.
3 وهاتان الصفتان يجب أن يطردا فى سلسلة الرواة، فاذا اختلتا فى راو، أو اضطربت احداهما، فإن الحديث يسقط عن درجة الصحة وننظر بعد السند المقبول الى المتن الذى جاء به، أى إلى نص الحديث نفسه.
4 فيجب الا يكون شاذا.
5 وألا تكون به علة قادحة.
والشذوذ أن يخالف الراوى الثقة من هو أوثق منه، والعلة القادحة يبصرها المحققون فى الحديث فيردونه به» انتهى.
قلت: فالذى ذكره الاستاذ أربعة شروط فقط، والا فأين: «اتصال السند؟» ثم قوله: «ثلاثة فى السند واثنان فى المتن» فى نظر، فإن الشذوذ، والعلة اكثر ما يجيئان فى السند، وان كانا يجيئان فى المتن ايضا، فقصرهما على المتن وهم والله الموفق.
ومن ذلك أيضا قول الاستاذ (ص 16، 17): «بل ان ابن سعد فى «طبقاته الكبرى» كرره فى بضعة أسانيد، قال: «أخبرنا ثابت، عن أنس.. وقال: أخبرنا ابن عون عن محمد.. وقال: أخبرنا أبوعقيل، قال: أخبرنا محمد.. وقال: أخبرنا عبيد الله بن عمرو عن عبدالملك..» اه.
قلت: وهذا يبين لنا «دقة» الاستاذ فى النقل! فإنه يستحيل أن يكون ابن سعد هو الذى قال: «أخبرنا ثابت» فإن بينه وبين «ثابت البنانى» رجلين على الاقل، وهذا يتفطن إليه من كان له أدنى ممارسة لهذا الفن.
ثم بالرجوع الى طبقات ابن سعد، ظهر صواب ما ذكرته، فقال ابن سعد (3/361/362): أخبرنا عفان بن مسلم، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا ثابت..
فالذى قال: أخبرنا ثابت، هو حماد بن سلمة، لا «ابن سعد»! وكذلك باقى المواضع أخطأ الاستاذ فى نقلها، وصوابها: قال ابن سعد: أخبرنا اسحق بن يوسف الازرق قال: أخبرنا ابن عون، وعن محمد.. وقال: أخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: أخبرنا أبوعقيل.. وقال: أخبرنا عبدالله بن جعفر الرقى، قال: أخبرنا عبيد الله بن عمرو..
ثم ظهر لى مقصده، فقد يكون لاحظ أن ابن سعد لا يمكن أن يروى عن «ثابت البنانى»، لكنه أراد أن يختصر بعض رجال السند، ففعل ما فعل، ولئن صدق ظنى، فهذه طرفة أخرى! لأن طريقة المحدثين فى ذلك أنهم ان أرادوا اختصار بعض رجال السند، فيقولون: أخرجه ابن سعد من طريق فلان عن فلان، لا أن يأتى من أى موضع فى السند، فيأتى بلفظة التحمل كما هى، فهذه عند المحدثين خطيئة، والله الموفق.
فهذه عشرة مآخذ فى الجملة لاحظتها أثناء قراءتى للكتاب، ولعلى لو أمعنت النظر ذكرت غيرها، وفيها كفاية لمن أراد الانصاف، والا فالمكابر لا يسلم بالحق ولو شهدت عليه أعضاؤه!
وقد بان لى أن الاستاذ لما كتب هذا الكتاب كان مندفعا، بعدما فاض قلبه بالغضب على أولئك الشباب الذين وجهوا إليه سهام الملام فى كل صوب يمم وجهه إليه.
وكان من المسائل التى جوبه الاستاذ بها، وأوغرت صدره على من سأله من الشباب، حلق لحيته، واسبال جبته!
فيسأله سائل: لم تحلق لحيتك وحلق اللحية حرام؟! فلا يكاد يجيب إجابة شافية، وأقوى ما أجاب به أنها مستحبة فقط، ومع كون هذا الجواب فى غاية الضعف من الناحية العلمية، فإننا نقول له: ومن أولى بفعل المستحبات من الأستاذ «الداعية الكبير»؟! ولذلك ما يكاد الأستاذ يترك فرصة حتى يهجم على أصحاب اللحى، وكأن لحاهم هى السبب فى ضياع الحكم الإسلامى، وفى انهيار الاقتصاد.. إلخ وهو يعلم أن الجماهير التى تحلق اللحية - وهو منهم - ما استطاعوا أن يقيموا شيئًا أيضاً.
وقد ذكر الاستاذ اللحية فى كتابه كالساخط الناقم فيقول (ص-51): «امرأة ذات دين، خير من ذى لحية كفور»!! ويقول (ص108): «والمخيف أنها طفولة عقلية تجمع فى غمارها أرباب لحى، وأصحاب هامات وقامات» وانظر (ص45) أيضًا.
فمثل هذا الأسلوب يشعر بتجريح الأستاذ لأصحاب اللحى، وكأنما هم المذنبون دونه! وهذا بالتالى يقلص رقعة الحب فى قلوب هؤلاء الشباب للداعية الكبير! فبعضهم لايلتزم جانب الأدب معه، وقد يسمعه بعض ما يكره!
ولم يسكت الأستاذ عن ذلك، بل ساورهم فى مواضع كثيرة من أحاديثه وكتاباته.
فقد أجرى أحد الصحفيين فى «مجلة الشباب» حوارًا مع الأستاذ، فكان مما قاله الأستاذ (ص20): «الإسلام ليس جلبابًا قصيراً ولا لحية مشوشة»!!
وألفت نظره إلى أن «الجلباب» هو زى المرأة، أما الرجل فزيه «القميص»!!
ونحن نقول: من الذى قال إن الإسلام هو اللحية والقميص فقط؟ أما يتقى الأستاذ ربه؟!
ولقد علمنا يقينًا أنهما من الإسلام، فما يليق بمن يدعو إلى الإسلام أن ينال هكذا منه على صفحات مجلات كهذه.
وأما إسبال الإزار، فيقول الأستاذ فى «المجلة المذكورة» (ص21): «فالإسلام كره الجباب الطويلة (؟) فقط يوم كان الجلباب علامة كبرياء، ونحن نحفظ قصة عمر بن الخطاب مع جبلة بن الأيهم الذى داس الأعرابى على ثوبه وهو يطوف بالكعبة، فقد كان الرجل أميرًا ومن شارات الأمراء أن تكون ثيابهم طويلة» اه.
قلت: وقد صرح الأستاذ فى أكثر من موضع بهذا الكلام المتهافت الذى لا خطام له ولا زمام!
أما جبلة بن الأيهم، فقد قيل إنه أسلم، ونقل ابن كثير فى «البداية» عن ابن عساكر أنه لم يسلم قط، وكذا قال سعيد بن عبدالعزيز، والواحدى، وصرح الذهبى أنه أسلم ثم ارتد، فمن العجب أن يجعل الأستاذ فعل هذا الرجل حجة على الشرع الذى نهى عن إسبال الإزار بكل حال.
ثم إن الأستاذ عكس القصة. فقد قال الذهبى فى ترجمة جبلة إنه داس رجلاً، فلكمه الرجل، فهم جبلة بقتله، فقال عمر: الطمة بدلها! فغضب وارتحل. ف«جبلة» هو الذى داس على الرجل، وعلى كل حال فليس فى القصة أنه داس على ثوبه.
وقد كان أجدر بالأستاذ - لو التزم بالمنهج العلمى فى النقل - ألا يحتج بقصة عمر مع جبلة حتى يتأكد من أن عمر لم ينكر عليه، وأن يحتج بقول عمر الصحيح عنه فى النهى عن ذلك.
فقد أخرج البخارى (7/60 - فتح) فى قصة مقتل عمر رضى الله عنه أنه: «... جاء رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقدم فى الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. قال: وددت أن ذلك كفاف لا على ولا لى فلما أدبر - يعنى الشاب - إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا على الغلام. قال: يا ابن أخى! ارفع ثوبك، فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك»اه.
فهذا عمر - رضى الله عنه - ينكر على الشاب إطالة إزاره، فكان ينبغى على الأستاذ أن يحتج بهذا.
أما دعواه أن الإسلام كره الإسبال يوم كان علامة كبرياء، فيقال له: «أثبت العرش ثم انقش»! ودون اثبات ذلك خرط القتاد!
وأذكر الآن جملة من الأحاديث الصحية التى تحرم إسبال الإزار، ثم ننظر فى دعوى الأستاذ.
1- عن أبى هريرة رضى الله عنه، مرفوعًا:
«ما أسفل الكعبين من الإزار، ففى النار».
أخرجه البخارى (10/256- فتح)، والنسائى (8/207) وأبويعلى (6648) وأحمد (2/410، 461) وأبونعيم فى «الحلية» (7/192) والخطيب (9/385) والبغوى فى «شرح السنة» (12/12).
وعند بعضهم: «إزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين، وأسفل ذلك إلى ما فوق الكعبين، فما كان أسفل من الكعبين، ففى النار».
2- عن أبى جرى، جابر بن سليم أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «ارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين. وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة».
أخرجه أبوداود (4048) والترمذى (2722) وأحمد (5/63، 64) وابن حبان (1450) والطحاوى فى «المشكل» (4/324) والبيهقى (10/236) والبغوى (13/83- 84) وهو حديث صحيح.
3- عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه، وقد سأله سائل قال له: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئًا فى الإزار؟ قال: نعم. قلت: حدثنى. قال: سمعته يقول: «إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل الكعبين من الإزار ففى النار - ثلاث مرات - لاينظر الله إلى من جر إزاره خيلاء».
أخرجه أبوداود (4093) وابن ماجة (3573) ومالك (2/914- 915/12 وأحمد (3/5 ،6.44، 97) والحميدى (737) وابن حبان (ج7/ رقم 5422، 5423، 5426) من طريق العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبى سعيد به. وسنده صحيح على شرط مسلم.
4- عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخذ بحجزة سفيان بن أبى سهل، فقال: «ياسفيان، لاتسبل إزارك، فإن الله لايحب المسبلين».
أخرجه النسائى فى «كتاب الزينة - من الكبرى» - كما فى «الأطراف» (8/473) - وابن ماجة (3574) وابن حبان (1449) وأحمد (4/246، 250) من طريق شريك النخعى، عن عبدالملك بن عمير، عن حصين بن قبيصة، عن المغيرة به.
قال البوصيرى فى «الزوائد» (149/3): «هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات»!!
قلت: لا، بل هو حسن فى الشواهد لأجل الكلام الذى فى شريك ابن عبدالله النخعى.
5- عن عبيد بن خالد المحاربى - ويقال: عبيدة بن خلف - قال: بينا أنا أمشى بالمدينة، إذا إنسان خلفى يقول: «ارفع إزارك، فإنه أتقى وأبقى». فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فقلت: يا رسول الله إنما هى بردة ملحاء. قال: «أما لك فى أسوة؟ فنظرت فإذا أزاره إلى نصف ساقية.
أخرجه النسائى فى «كتاب الزينة» - كما فى «أطراف المزى» (7/224) والترمذى فى «الشمائل» (113) وأحمد (5/364) بسند لا بأس به فى الشواهد.
6- عن حذيفة بن اليمان، رضى الله عنه، قال: أخذ النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعضلة ساقى - أو ساقه - فقال: «هذا موضع الإزار، فإن أبيت، فأسفل، فإن أبيت فلا حق للإزار فى الكعبين».
أخرجه النسائى فى «كتاب الزينة» - كما فى «أطراف المزى» (3/53) وفى «المجتبى» (8/206-207) والترمذى فى «سننه» (1783) وفى «الشمائل» (115) وابن ماجة (3572) والطبرانى فى «الصغير» (1/97) وابن حبان (ج7/رقم 5421) والبغوى فى «شرح السنة» (12/10-11) من طريق عبدالعزيز بن محمد البغوي، وهذا فى «مسند ابن الجعد» (2652) من طرق عن أبى إسحاق السبيعى، عن مسلم بن نذير، عن حذيفة به.
قال الترمذى: «هذا حديث حسن صحيح، رواه الثورى وشعبة عن أبى إسحق» فاستفدنا من كلام الترمذى - رحمه الله - ثلاثة أشياء: الأول: أنه حكم بصحة الحديث. قوله: «رواه الثورى وشعبة عن أبى إسحق» استفدنا منه شيئان وهما:
الثاني: أن الثورى وشعبة من قدماء أصحاب أبى إسحق، فلا يعله أحد باختلاط أبى إسحق.
الثالث: أن شعبة كان لايرضى أن يأخذ عن أبى إسحق إلا ما سمعه من شيخه، فأمنا بذلك من تدليسه.
وقد روى البيهقى فى «المعرفة» بسند صحيح عن شعبة قال: «كفيتكم تدليس ثلاثة. الأعمش، وقتادة، وأبى إسحاق السبيعى».
7- عن أبى ذر، رضى الله عنه، مرفوعاً: «ثلاثة لايكلمهم الله، ولاينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم» قلت: من هم يا رسول الله؟! خابوا وخسروا فأعادها ثلاثاً. قلت: من هم يارسول الله؟! قال: «المسبل إزاره، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب».
أخرجه مسلم (106/171) وأبوعوانة (1/39-40) وأبوداود (4087، 4088) والنسائى (7/245 و 8/208) والترمذى (1211) وابن ماجة (2208) والدارمى (2/267) وأحمد (5/148، 158، 162، 168، 177) والطيالسى (467) والطحاوى فى «المشكل» (4/378-379) والبيهقى (4/191، 5/265) وأبونعيم فى «الحلية» (7/130، 205) من طريق خرشة بن الحر، عن أبى ذر به.
قال الترمذى: «حديث حسن صحيح».
8- عن ابن عباس، رضى الله عنهما مرفوعاً: «لاينظر الله إلى مسبل الإزار».
أخرجه النسائى (8/207-208) بسند جيد.
9- عن أبى الدرداء فى حديث طويل له، وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «نعم الرجل خريم الأسدى، لولا طول جمته، وإسبال إزاره» فبلغ ذلك خريماً فعجل، فأخذ شفرة فقطع بها جمته، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه.
أخرجه أبوداود (4089) وأحمد (4/179، 180) والبخارى فى «التاريخ الكبير» (2/1/225) والطبرانى فى «الكبير» (ج6/رقم 5616) والحاكم (4/183) وقال: «صحيح الإسناد» ووافقه الذهبى!! وفيه نظر، ذكرته فى «إتحاف الناقم».
وقال النووى فى «الرياض»: «إسناده حسن إلا قيس بن بشر، فاختلفوا فى توثيقه وتضعيفه، وقد روى له مسلم».
وفى كلام النووى - رحمه الله - بعض النظر، ذكرته فى المرجع السابق ذكره وأقل أحوال الحديث أن يحسن فى الشواهد.
***
فهذه تسعة أحاديث، لايسع الواقف عليها إلا أن يقطع بأن إسبال الإزار حرام.
أما حجة الأستاذ، وكل من يرى جواز الإسبال، فهى ما أخرجه البخارى (10/254- فتح) وأبوداود (4085) والنسائى (8/208) وأحمد (2/104) والبغوى (12/9-10) والبيهقى (2/243) من حديث ابن عمر مرفوعاً: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» قال أبوبكر: يا رسول الله! إن أحد شقى إزارى يسترخى، إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لست ممن يصنعه خيلاء».
قلت: فظن الأستاذ ومن معه أن من لم يجر ثوبه خيلاء، جاز له أن يصنع ذلك. والجواب من وجوه:
الأول: أنه يستحيل لمن يعرف سيرة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وشدة اتباعه لكل ما يصدر عن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يتصور أن يسمع أبوبكر - رضى الله عنه - هذا الوعيد الشديد فى إسبال الإزار ثم يسبل إزاره، يوضحه:
الثاني: قول أبى بكر: «إن أحد شقى إزارى يسترخى» وهذا واضح جداً أن إزاره كان فوق الكعبين، لكنه يسترخى، وهو يتعاهده بشدة إلى أعلى. والسبب فى ذلك أن أبا بكر - رضى الله عنه - كان نحيفًا، كما روى ابن سعد فى «طبقاته» (3/188) قال: أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم قال: دخلت مع أبى على أبى بكر، وكان رجلاً نحيفاً خفيف اللحم أبيض. وهذا سند صحيح جداً.
وقد روى ابن سعد أيضاً عن عائشة قالت فى صفة أبى بكر: «... نحيف، أجنأ لا يستمسك إزاره، يسترخى عن حقوته» فهذا يبين لنا أن إزار أبى بكر - رضى الله عنه - كان يسترخى لعذر، ومع ذلك فهو يتعاهده، أفيمكن لإنسان شم ريح العلم ولو مرة فى حياته أن يقيس حال أولئك المشايخ أو غيره من الذين يطيلون ذيل ثيابهم عمدًا وبغير عذر على حال أبى بكر رضى الله عنه بعد ما تقدم من البيان؟!
ثم بعد كتابة ما تقدم وقعت على كلام نفيس جداً للحافظ شمس الدين الذهبى رحمه الله فى ذلك. فقد قال فى «سير أعلام النبلاء» (3/234-235) «كل لباس أوجد فى المرء خيلاء وفخرًا، فتركه متعين، ولو كان من غير ذهب ولا حرير فإنا نرى الشاب يلبس الفرجية الصوف بفرو من أثمان أربعمائة درهم ونحوها، والكبر والخيلاء على مشيته ظاهر، فإن نصحه ولمته برفق كابر، وقال: ما فى خيلاء ولافخر. وهذا السيد ابن عمر يخاف على نفسه ذلك. وكذلك ترى الفقيه المترف إذا ليم فى تفصيل فرجية تحت كعبيه، وقيل له: قد قال النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما أسفل من الكعبين من الإزار، ففى النار»، يقول: إنما قال هذا فيمن جر إزاره خيلاء، وأنا لا أفعل خيلاء، فتراه يكابر، ويبرئ نفسه الحمقاء، ويعمد إلى نص مستقل عام، فيخصه بحديث آخر مستقل بمعنى الخيلاء، ويترخص بقول الصديق. إنه يارسول الله يسترخى إزارى، فقال: «لست يا أبا بكر ممن يفعله خيلاء».
فقلنا: أبوبكر رضى الله عنه لم يكن يشد إزاره مسدولاً على كعبيه أولا، بل كان يشده فوق الكعب، ثم فيما بعد يسترخى... وقد قال عليه السلام: «إزارة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لاجناح عليه فيما بين ذلك وبين الكعبين» ومثل هذا فى النهى لمن فصل سراويل مغطيًا لكعابه، ومنه طول الأكمام زائداًَ، وتطويل العذبة، وكل هذا خيلاء كامن فى النفوس..» اه.
قلت: يرحم الله الذهبى الحافظ، فقد كفى وشفى. وقد قال بعض العلماء: إن هذا خاص بأبى بكر رضى الله عنه، فهى واقعة عين لا عموم لها، وليس ما قاله هذا العالم ببعيد، وقد ورد ما يدل على أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرق بين أبى بكر وبين ابن عمر فى هذه المسألة.
فأخرج أحمد (2/147) قال: حدثنا عبدالرزاق وهذا فى «مصنفه» (ج11/رقم 19980) أنا معمر، عن زيد بن أسلم.
سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «من جر إزاره من الخيلاء لم ينظر الله عز وجل إليه».
قال زيد: وكان ابن عمر يحدث أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم رآه وعليه إزار يتقعقع - يعنى جديداً - فقال: «من هذا؟» فقلت: أنا عبدالله. فقال: «إن كنت عبدالله، فارفع إزارك» قال: فرفعته. قال: «زد» قال فرفعته حتى بلغ نصف الساق.. قال: ثم التفت إلى أبى بكر فقال: «من جر ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» فقال أبوبكر: إنه يسترخى إزارى أحيانًا. فقال النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لست منهم».. وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
قال الهيثمى فى «المجمع» (5/123): «رجاله رجال الصحيح».
الثالث: أن هناك فرقا بين من يرخى إزاره خيلاء، وبين من يرخيه بغيرها. فإن فعل المرء الأول، فإن الله لاينظر إليه يوم القيامة ولايزكيه، وله عذاب أليم كما فى حديث أبى ذر المتقدم.
وفى حديث أبى هريرة مرفوعًا: «بينما رجل يمشى فى حلة، تعجبه نفسه، مرجل جمته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة».
أخرجه البخارى (10/258) والنسائى، وأحمد وغيرهم.
فهذا الذى يفعله خيلاء. أما من جره بغير خيلاء فقد ارتكب النهى، ووقع فى المحظور فعله.
الرابع: أنه مما يدل على أن إسبال الإزار لايجوز:
ما أخرجه النسائى (8/209) والترمذى (1731) بسند صحيح على شرط الشيخين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من جر ثوبه خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة» فقالت أم سلمة: فكيف يصنعن النساء بذيولهن؟ قال: «يرخين شبرًا» فقالت: إذا تنكشف أقدامهن. قال: «فيرخينه ذراعًا، ولا يزدن عليه».
قال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
وأخرجه أحمد (6/315) من طريق عبيد الله، عن نافع، عن سليمان ابن يسار، عن أم سلمة به. وسنده صحيح أيضا.
قال الحافظ فى «الفتح» (10/259): «أفادت هذه الرواية قدر الذراع المأذون فيه، وأنه شبران بشبر اليد المعتدلة، ويستفاد من هذا الفهم التعقب على من قال: إن الأحاديث المطلقة فى الزجر عن الإسبال، مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء، قال النووى: ظواهر الأحاديث فى تقييدها بالجر خيلاء، يقتضى أن التحريم مختص بالخيلاء، ووجه التعقب أنه لو كان كذلك لما كان فى استفسار أم سلمة عن حكم النساء فى جر ذيولهن معنى، بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقا سواء كان مخيلة أم لا، فسألت عن حكم النساء فى ذلك لاحتياجهن إلى الإسبال من أجل ستر العورة، لأن جميع قدمها عورة، فبين لها أن حكمهن فى ذلك خارج عن حكم الرجال فى هذا المعنى فقط، وقد نقل القاضى عياض الإجماع على أن المنع فى حق الرجال دون النساء، ومراده منع الإسبال، لتقريره صلى الله عليه وعلى آله وسلم أم سلمة على فهمها، إلا أنه بين لها أنه عام مخصو لتفرقته فى الجواب بين الرجال والنساء فى الإسبال، وتبيينه القدر الذى يمنع ما بعده فى حقهن، كما بين ذلك فى حق الرجال. والحاصل أن للرجال حالين: حال استحباب وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق والحال جواز وهو إلى الكعبين.. ويستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج مخرج الغالب، وأن البطر والتبختر مذموم، ولو لمن شمر ثوبه..» اه.
قلت: وهذاكلام نفيس، غاية، تقر به عين العالم المنصف، وأحب للأستاذ أن يقرأه بتدبر، وأن يراجع الصواب من قريب، بدلا من أن يظل سادرًا فى استخفافه بمن يواظب على فعل الطاعات فإنه قال فى المجلة المذكورة (ص22) عن الذين لايسبلون أزرهم: «هؤلاء أناس هم أنصاف متدينين، أو أنصاف متعلمين، فهم يحتاجون إلى من يعلمهم أن الجلباب (؟) القصير لايغنى عن العقل والخلق، والأدب والعمل الطويل» اه.
كذا يقول الأستاذ «الداعية الكبير»!! وهل العقل والخلق والأدب ينافى أن يقصر الإنسان ذيله؟ ما هذا اللغو الذى لا طائل تحته؟!
وهذه نغمة عهدناها من الأستاذ فى أحاديثه وبعض كتاباته، يأتى بشىء لا خلاف فيه من المخالف ثم ينكت عليه به.
وهذا كقوله فى كتابه الذى نرد عليه (ص87): «وكلام خباب رضى الله عنه عليه مسحة تشاؤم غلبت عليه لمرضه الذى اكتوى منه، ولايجوز أن نعد البناء رذيلة، فقد يكون فريضة» اه.
وأنا أسأله: أين تجد فى كلام خباب أو غيره أن البناء رذيلة حتى تقول هذا الكلام؟! أما تتقى الله ربك؟!
هذا، وقد أطلت البحث فى مسألة الإسبال لأنها ليست من صلب الكتاب الذى نرد عليه، فأحببت أن أجليها نصيحة للأستاذ، ولمن سمع كلامه فاغتر به.
وبودى أن يسلك الأستاذ طريقة أجدى فى تعامله مع الشباب، وليعلم أن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، والكلمة الطيبة صدقة.
فقد حكى الأستاذ مرة أن أحد الشباب الصيادلة سأله عن «مس الذكر»، وهل ينقض الوضوء أم لا؟ فلم يجبه الأستاذ، وإنما صب جام غضبه عليه، مذكرًا إباه بأن الأدوية التى تعج بها «أجزخانته» هى من صنع اليهود، ثم نصحه ألا يهتم بهذه الأمور وليدعها لغيره!! وأنا مازلت أتعجب من هذا الجواب؟ أليس هذا الشاب امرءًا مسلمًا يجب عليه أن يتعرف على الأحكام الشرعية المنوطة به كمكلف؟! ثم يدع هذه المسألة ومثلها لمن؟! لليهود أو النصارى؟! إن هذا الشاب إذا قرأ قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من مس ذكره فليتوضأ» فلا يسعه إلا أن يتوضأ إن فعل ذلك، ولكنه يرى رأيا آخر - اعتمادا على حديث آخر - يقول: مس الذكر لا وضوء فيه، ولأنه من العوام، فلا يدرى أى القولين هو الصواب، فمن واجبه أن يسأل من يظن فيه العلم، فيرجح له أحد القولين ليطمئن قلبه. فتوجه إلى الأستاذ ففوجئ بهذا الجواب! ولا أدرى أين ذهب صبر الأستاذ، وكلامه عن سعة الصدر، والرفق بالجاهل؟!
وفى كتابه الذى نرد عليه، قال الأستاذ (ص26-27):
«وقد وقع لى وأنا بالجزائر أن طالبًا سألنى أصحيح أن موسى فقأ عين ملك الموت؟.. فقلت للطالب وأنا ضائق الصدر.. قال الطالب: «أحببت أن أعرف هل الحديث صحيح أم لا؟ فقلت متبرمًا..» فأنت ترى أن الطالب لم يفعل إلا ما يجب عليه شرعًا من سؤال أهل الذكر عنده، امتثالاً لإرشاد الله تبارك وتعالى له ولأمثاله، وليس فى سؤاله ما يمكن أن يلام عليه حتى يقول الأستاذ: «وأنا ضائق الصدر.. متبرماً..»!
فهذه الخطة التى سار عليها الأستاذ من احتقاره لكثير من الشباب، والاستخفاف بهم، هى التى جعلت هذا الشباب لايقيم له وزنًا، وبعضهم يرميه بعدائه للسنة النبوية - وهو معذور - لما يراه من هجوم الأستاذ على تأويل الأحاديث الصحيحة تأويلاً مستكرهاًَ منكرًا.. وكان من الخير للحركة الإسلامية ألا يكون للأستاذ هذا الجمع الحاشد من الخصوم، لأن هذا النزاع صدهم عن الانتفاع بعلمه، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
أما طريقتى فى الرد، فإننى قدمت بين يدى الكتاب بمجموعة من القواعد الأصولية التى خلط فيها الأستاذ، فحررتها لتكون أصلاً يرجع إليه عند التنازع، وذكرت نبذًا من ثناء العلماء على أهل الحديث وقد رأيت أن أنقل من كتاب الأستاذ الفقرة التى أرد عليها، حتى لا أشق على القارىء إذا أراد المقارنة بين كلام الأستاذ وبين ردى عليه. وقد أحذف من كلام الأستاذ بعض كلمات لايتوجه الرد عليها فأضع مكانها نقطًا «...».
وفى الختام فإنى أذكر الأستاذ أن هذا الرد لم أقصد منه إلا بيان وجه الحق، وقد جريت فيه على المجاملة ما أمكن، إلا فى بعض مواضع اضطرنى إليها ما اقصاه صنيعه، وهى قليلة، فقد يكون هذا من حظ العلقة التى هى فى قلب ابن آدم والله أسأل أن يهدينا للتى هى أقوم، بالتى هى أحسن، وأن يجعل كتابى هذا زادًا لحسن المصير إليه، وعتاداً ليمن القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبى ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على معلم الإنسانية الخير، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
نشر بالعدد 630 بتاريخ 7/1/2013


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.