هل دخلت غرفة الإعدام من قبل وهزك عاصفها وقبضت روحك جدرانها قبل الحبل المسدل.. هل شاهدت فيها السيد عشماوي بوجهه المليء بالوجوم وبشواربه التي ترتعد منها الصقور وبعيونه اللامعة التي تنتهي عندها كل الحكايات والاساطير الخرافية.. هل رأيت ذلك البئر العميق لأربعة أمتار في قلب الأرض التي تأسن من هول الموتي المحكوم عليهم بالاعدام.. هل سمعت عن قرب صوت مصدر البئر الحديدي المفزع حينما يفتح مع المقصلة يسقط من صعدت روحه لدي بارئها بحكم محكمة في البئر بلا هوادة.. هل يمكن أن تتحمل هذه اللحظات.. وهل يمكن أن تعطيني مساحة البوح لأسرد اليك ماعانيته في غرفة الاعدام البعيدة كل البعد عن كل عيون القراء الاجلاء بأمر الله.. مادامت شرور الجريمة بعيدة عن جرائمنا وقلوبنا.. و.. أقدارنا.. ..نعم.. دخلت غرفة الاعدام مرتعشة.. قدماي لاتقوي علي العزم.. خيل لي أن جميع الرجال الذين يقفون داخلها أشباح.. وأن عشماوي الذي استقبلني بابتسامة عريضة لم تفصح عنها كلها بالتأكيد شواربه هو ملخص الحياة التي تصفعني كثيرا علي خوانة بعدما تفتح لي ذراعيها لم أصدق ابتسامته.. ولم أصدق أنني بعدما أهبط درجات سلم بئر الاعدام لأقف علي أرض القتلي وأشم رائحة الموت تلفني من كل مكان وأشعر بالدماء تحت قدمي رغم الموت البارد ويغلقون فوقي الباب الحديدي الكبير الذي يفصل بيني وبين حبل المشنقة ثم يفتحونه بعنف ليشق صوته المفزع الصمت الرهيب، أنني سوف أصعد بعد ذلك درجات سلم بئر الاعدام مرة ثانية بعدما أقول مقدمة حلقة «عشماوي» في برنامج عملت فيك «إيه مهنتك » الذي كنت أقدمه علي شاشة الفضائية المصرية في عهد السيدة الاعلامية الكبيرة/ سناء منصور.. وأصر المخرج النابغة إساف إسماعيل أن أقدم الحلقة أولا من بئر الاعدام بعدما ساعدني في التصوير داخل البئر اللواء/ محمود الفيشاوي.. لأشعر في كل لحظة أن سقف البئر سيفتح وسيهبط فوق رأسي قتيل.. كنت أنتظر في البئر في الظلام لحين استعداد الجميع للتصوير والباب مغلق علي ويخيل لي في تلك اللحظات أن فوق رأسي محكوم عليه بالاعدام يردد الشهادة وارددها معه.. «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله».. واتمني معه مايتمناه.. وأسمعه يقول لاشيء.. فقد أدرك أن الدنيا فانية وأن الموت يأتينا في لحظة.. رعبي جعلني أقول المقدمة من المرة الأولي وأصعد سريعا السلالم لأجد عشماوي بطل حلقتي الذي سأسأله فيها عملت فيه إيه مهنته.. مبتسما ابتسامة .. عريضة.. باردة.. فيهبط نظري غصب عني إلي يديه.. فيبتسم.. وكأنه يدرك مايدور في خزائن رعبي.. أنا مبقتلش حد بإيدي.. أنا بس بعلق الحبل وبشد الذراع!! وبدأ يروي لي ما فعلته به مهنته - في هذه الغرفة - التي كنت أنتظر خروجي منها بفارغ الصبر.. ولو بعفو من .. السيد المبجل .. الذي أجله واحترمه.. رئيس الجمهورية.. و.توالت الاعترافات العشماوية.. مهنتي خلتني بشوف الانسان بحجمه الطبيعي.. لحظة فراق الدنيا.. لحظة مرعبة وصعبة.. لكن إحنا اتعودنا عليها.. مهنتي خلتني بكره اللون الأحمر جدا.. لون بدلة الاعدام.. مبكلش الطماطم.. باكل السلطة «خيار» بس.. مرة رجعت وكنت عريس جديد لقيت مراتي لابسة جلابية لونها أحمر.. جاتلي حالة عصبية وكنت هسيب البيت.. مهنتي خلتني مش ممكن أروح فرح علشان الناس لما بتشوفني بتتشائم حتي لو فرح ابن اختي.. ممكن تحلق شنبك ياعم عشماوي؟! سألته - اسمي حلمي سلطان فيه أكثر من عشماوي والشنب ده شنب عشماوي الكبير وكلنا بنعتز بيه!! وتوالت الاعترافات وسط خفة دم عشماوي التي لم تستطع أن تمنع عن أنفي رائحة الموت.. عدت إلي منزلي بلاعفو.. شاردة واجمة.. صفق الجميع للحلقة.. وكنت أسمع الصفيق صفعات باب البئر في كوابيس منامي لشهور طويلة تم اعدامي فيها مائة مرة فأدركت انني حتما سوف اقضي باقي حياتي لا أفكر أبدا في التحريض علي قتل «صرصار» مهما فعل بي.. وأنني علي استعداد أن أدور في كل شوارع المدينة حتي لا أمر أمام سجن الزنانيري أو حي الباطنية بتجارها اللاحقين.. .. وكلما قرأت عن احكام الاعدام وما أكثرها الآن في الجرائد استدعيت المشهد.. وارتعدت.. وتخيلت كل محكوم عليه بالاعدام في هذه الغرفة وكيف سيتعامل مع تفاصيلها.. وهل كان يتوقع أن يكون ذلك مصيره.. قطعا إن كل مرتكبي الجرائم التي تؤدي إلي احكام الاعدام لم يتخيلوا في لحظة أن يكون ذلك مصيرهم.. بنفوذ أو بتفاؤل جم.. أو بقلب ميت إلي درجة عدم التخيل.. وقطعا أن الابرياء إن وجدوا يحييون في بدلتهم الحمراء وهم يتوقعون أن تنقذهم العناية الإلهية كما يحدث في الافلام المصرية ومع بعض الحالات الواقعية مثل الزوجة التي فلتت في اللحظات الأخيرة من حبل المشنقة بعدما ثبت بالدليل القاطع أن زوجها انتحر وانها لم تقتله.. استدعيت المشهد بالكامل مع كل شهور الاعدام السابقة واحكامها التي يتجرعها الرأي العام كلها.. من قاتل نادين وهبه.. إلي أبطال أحداث.. إلي هشام طلعت مصطفي.. عشرات البدل الحمراء التي بات عشماوي يكرهها ويحلم مثلنا أن يتم تغييرها إلي لون آخر.. أقترح أمرين إن كان القاريء العزيز يوافقني.. أولا.. أن تصبح بدلة الاعدام «خضراء» رحمة بمن سيكون مصيره الموت الحتمي لأن هذا اللون تبعا لدراسات الhowseofcallwr أو بيت الالوان العالمي يهذب النفس ويخدر الألم.. بينما الأحمر يشعل الغرائز ويثير العنف والتوتر. ثانيا: أن تصبح «غرفة الاعدام» بتفاصيلها الخشنة «مزارا» لرجال الاعمال والشرطة واصحاب النفوذ وأولاد الشوارع والمسجلين والمقهورين من الرجال والنساء ليدركوا أنه لا يوجد شيء علي وجه الارض يستحق التواجد في هذا البئر حيا أو مقتولا. وأن رعب من زهقت روحه علي غفلة بيد المجرم أقل بكثير من الرعب الذي ينتظر تنفيذ الحكم بالاعدام علي المجرم في هذه الغرفة المرعبة مهما كان عشماوي مبتسما ورقيقا.