دخل عبد الفتاح السيسى إلى المئة يوم الثانية من رئاسته الأولى، وفى يده ورقة قوة هائلة، تضاف إلى رصيده الشعبى، ظهرت أماراتها فى الإقبال الطوفانى المذهل على شراء شهادات مشروع قناة السويس، والذى جمع 64 مليار جنيه فى ثمانية أيام عمل بنكى، وهو ما لم يسبق حدوثه فى أى بلد بالدنيا الواسعة، ولم يكن متوقعا حتى من أشد المتفائلين، وقد كان التصور أن يجتمع المبلغ المطلوب 60 مليار جنيه فى ستة أشهر من طرح الشهادات، أى فى مئة وثمانين يوما، وكانت المفاجأة المفرحة فى اكتمال الاكتتاب الشعبى بعد أسبوع، وجمع مبلغ تقترب قيمته بأسعار الصرف الجارية من عشرة مليارات دولار . وقد يقال لك أن الفائدة المرتفعة (12%سنويا) هى سر الإقبال، وهو تفسير لا يبدو كافيا ولا مقنعا تماما، فبنوك مصرية أو عاملة فى مصر تطرح ذات الفائدة، وشهادات الاستثمار العادية لها فائدة سنوية تقارب سعر فائدة شهادات قناة السويس، لكن شيئا من الإقبال الذى جرى لم يحدث، خاصة أن إقبال الأفراد لا الشركات والصناديق كان غالبا، وبلغت نسبته 88% من قيمة الحصيلة النهائية، وهو ما يبرز عنصر الثقة المؤكدة الزائدة الفائضة فى شهادات قناة السويس، ولكونها مشروعا ناجحا بدلالة وطنية عميقة، زاد منسوب الثقة فيه مع ارتباط المشروع باسم الرئيس السيسى، وهذه حقيقة مادية ومعنوية صلبة تستعصى على الإنكار، وتضاف إلى رصيد الرئيس بامتياز، تماما كما كان خروج عشرات الملايين إلى الميادين فى 26 يوليو 2013، وتماما كما كان التصويت للسيسى فى انتخابات الرئاسة بما يشبه الإجماع الوطنى، وقد حصل الرجل على التفويض الثالث هذه المرة بطريقة مختلفة، ليس بالاحتشاد فى الميادين، ولا بالتصويت فى الصناديق، ولكن باكتتاب شعبى تلقائى، تقدم فيه المصريون العاديون إلى أول الصف، وصاروا المستثمر الأعظم فى اقتصاد مصر الجديدة . واختبار الثقة هو أعظم ما نجح فيه السيسى حتى الآن، وهو اختبار يسترد فيه المصريون ثقتهم بأنفسهم، فقد توالت عقود وراء عقود، وبالذات فى زمن الانحطاط المصرى طيلة الأربعين سنة الأخيرة، تزايدت فيها «فجوة الثقة»، وأدى انعدام الثقة إلى هد حيل العمل العام بكل معانيه وصوره، ولم يعد أحد يثق فى أحد، وبسبب تفشى الفساد الذى صار دولة ومؤسسة تحكم وتعظ، والاتجار بالدين، واعتياد الكذب على الناس، وتناقض الأقوال مع الأفعال، ثم تناقض الأفعال مع الأفعال، وإلى حد أن مصر تحولت إلى بلد يعيش فى الحرام، مؤسساتها تعيش فى الحرام الدستورى، وأهلها اعتادوا لقاء الفساد والرشاوى فى كل زاوية وخطوة، وقد لعبت ثورة 25 يناير 2011 وموجتها الأعظم فى 30 يونيو 2013، لعبت الثورة دورا فى استرداد ثقة المصريين بمقدرتهم على تغيير الحال، وعلى شق الطريق لأمل يصارع اليأس المقيم، لكن الثورة جعلت المصريين أيضا فى حالة إفاقة، فلم يعودوا يصدقون أحدا ببساطة، حتى لو حلف لهم على المصحف، وهو ما كان سببا فى سرعة انكشاف كذب حكم الإخوان، وفى الإطاحة السريعة المدوية برئاسة مرسى، وفى أجواء الإفاقة والتطلع لأمل صادق حقيقى، برزت ظاهرة عبد الفتاح السيسى، وبدا لدوائر واسعة من المصريين، أنها بصدد شيء آخر، وبصدد شخص مختلف، آيته الصدق والصدق وحده، فالصدق كما قلت مبكرا هو السلاح الذرى لعبد الفتاح السيسى، صدق الرجل فصدقه الناس، وبنوا معه وإليه جسورا من ثقة مستعادة، وبطريقة لم تجتمع لشخص منذ زمن جمال عبد الناصر . نعم، الصدق، والثقة المتولدة عن استشعار الصدق، هى العصا السحرية للسيسى، فلم يزين الرجل شيئا للناس، ولم يعدهم بأنهار اللبن والعسل، بل صارحهم بالحقيقة الموجعة، وهى أننا بصدد اقتصاد منهار، وبصدد دمار شامل للخدمات والبنى الأساسية، وبصدد مخاطر إرهاب وحشى يفكك الدول من حولنا، ولأن معرفة حقيقة المشكلة هى أول طريق الحل، فلم يرفع السيسى راية الاستسلام لبؤس الحال، بل كانت لديه رؤية وعنده طريق، لم يضع رؤيته فى برنامج مكتوب، ولا خاطب المصريين من وراء ستار الورق المصقول، ولا بالكلمات المنمقة، بل كسب قلوب الناس باستشعارهم لصدقه، وبرغبته الجارفة فى تفجير الطاقات الكامنة للشعب المصرى، والذى يظهر معدنه الذهبى فى لحظات الخطر، وفى المقدرة على العبور فوق أطواق النار، فقد يكون الشعب المصرى مسكينا بتدهور أحواله الاقتصادية والاجتماعية الداهسة، لكنه يظل شعبا عظيما بزاده التاريخى الغنى، وبمقدرته العبقرية على استدعاء خبراته المتراكمة، فقد كانت توكيلات ثورة 1919، هى ذاتها الخبرة التى تجلت فى توكيلات حملة تمرد، وكان الاكتتاب الشعبى فى حملات شركات وبنوك طلعت حرب، هى ذاتها الخبرة التى تجلت على نحو أسطورى فى حملة شهادات قناة السويس، وكان الصدق الذى ميز نبرة السيسى هو الذى جعل له إيحاء جمال عبدالناصر. وعبر المئة يوم الأولى من رئاسة السيسى، بدا أننا أمام رئيس متفرغ لوظيفته، يصحو قبل صلاة الفجر، ولا يبدو أنه يخلد إلى النوم، وهيئته مجهدة مهمومة، وحركته دائبة، ويعمل 18 ساعة فى اليوم على طريقة جمال عبد الناصر، لا يلتفت إلى مواكب، ولا إلى زينات، ويتصرف بإحساس «المستدعى إلى مهمة»، يعرف أن المهمة صعبة وثقيلة، لكنها ليست مستحيلة، فلا شىء مستحيل عند المصريين، وهم شعب يسكنه سر الله، وقادر على اجتراح المعجزات الإنسانية، واختصار زمن الإنجاز، وبطريقة لا تضيع «فمتو ثانية»، وهو ما دفع السيسى إلى مخاطرة اختصار زمن إنجاز مشروع توسعة قناة السويس، وجعله سنة واحدة لا ثلاث ولا خمس سنوات، ويبدو أن الإنجاز سيكتمل بمشيئة الله فى أقل من سنة، وهو ما استشعره الشعب المصرى بذكائه الفطرى النادر، وأراد أن يبادل الإنجاز بما يشبه الإعجاز، واختصر مدة المئة وثمانين يوما إلى ثمانية أيام فقط، وجمع تمويل مشروع القناة فى لمحة عين . إنها قوة الدفع التى تخلقت من صدق السيسى، ومن ثقة الناس بوعده المفعول، ومن العصا السحرية التى تشق عباب بحر الأوجاع، وتعبر بالمصريين إلى زمن نهوض حقيقى، يملك فيه المصريون مقاديرهم، ويعيدون بناء بلدهم من نقطة الصفر، وبسلاح جبار وجدوه فى أيديهم، وهو الاكتتاب الشعبى العام، فبوسع الرئيس السيسى، وبوسع المصريين الآن، بوسعهم أن يغادروا زمن التسول بلا رجعة، أو انتظار هبات المانحين، وأن يلجأوا إلى مقدرتهم الجماعية على توفير التمويل اللازم لإعادة بناء مصر، وبدءا من إعادة تشغيل مصانع القطاع العام الكبرى المتوقفة، وإلى مشروعات التوسع الطفرى فى الجغرافيا المأهولة، وإعادة تصنيع البلد، وإقامة المحطات النووية، واستصلاح ملايين الأفدنة، ورد الاعتبار للبحث العلمى وتوطين التكنولوجيا، وتكامل الصناعات الحربية مع الصناعات المدنية، وإقامة بنية أساسية ونظام خدمات يليق بالعصر، وغيرها وغيرها من مشروعات النهوض العظيم، والتى قدر السيسى احتياجها إلى تريليون جنيه مصرى، بوسع المصريين أن يوفروها فى اكتتابات شعبية عامة، بالأسهم أو بالصكوك أو بشهادات الاستثمار، حتى لو كانت نسبة الربح فيها أقل من مثيلاتها فى شهادات قناة السويس، وبشروط الشفافية الكاملة، وكفاءة الإدارة، والتشغيل الاقتصادى المثمر، والثقة فى عوائد تفيد المصريين العاديين، ومن الطبقات الوسطى بالذات، والتى تملك مدخرات تريليونية، تستطيع أن تضاعف بها معدلات الاستثمار، وتحول الطاقة البشرية الهائلة فى البلد إلى ميزة حاسمة تصنع التفوق المصرى . ضربة واحدة من الشعب المصرى وفرت البديل للتمويل، فلم تعد بنا حاجة إلى استجداء المانحين، ولا إلى تدليل مليارديرات المال الحرام، والذين يستثمرون فى عذاب الشعب المصرى، وقد وصلت الرسالة إلى الجميع، ووصلت من قبلهم إلى صاحب الدعوة الرئيس السيسى بالذات، وقد سبق للسيسى أن وجه إنذاره لمليارديرات السرقة العامة، وعلى طريقة «هتدفعوا يعنى هتدفعوا»، وبوسعه الآن أن ينفذ إنذاره، وأن يضرب البيروقراطية الفاسدة والمليارديرات اللصوص بلا رحمة، وأن يعيد الحقوق المهدرة إلى الشعب المصرى، والذى أثبت أنه قوة الحسم فى السياسة، وفى صناعة اقتصاد النهوض .