فاتح أكين كسر الصمت التركى ب«القطع»: الفيلم تكفير عن جريمتنا مخرج كندى فى رسالة بفيلمه «ارارات».. اعتراف الجناة وغفران المجنى عليهم «أمريكا أمريكا».. نهاية البطل كماسح أحذية على رصيف الميناء بعد نجاته من المجزرة عمر الشريف كان له نصيب من تلك الموجة بفيلم عن أسرة فرت إلى مارسيليا بسفينة بضائع ربما لم تعرف واقعة تاريخية طريقها إلى السينما، كما عرفت مذابح الأرمن على يد الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، إذا استثنيا أحداث الحرب العالمية الثانية، ولا يتعلق الأمر بعدد الأفلام بقدر تعلقه بالتنوع فى المعالجة والرؤى والزوايا، بين عمل يدين الجانب التركى وآخر يحاول تبرئته، وبين قصص إنسانية ترصد الضحايا الأرمن، وأعمال تلقى الضوء على موجات النزوح الجماعية.. بين كل ذلك كان للسينما كلمتها. وفى كل تلك المعالجات ظلت السينما وجهة نظر فى الأحداث، التى لا تزال محل جدل ونقاش بعد مرور مائة عام عليها، بين من يصر على وصفها بجريمة «إبادة جماعية»، وبين من يعتبرها مجرد معركة ضمن مئات المعارك التى شهدتها الحرب العالمية الأولى. أحدث الأفلام التى تناولت المجزرة كان «القطع» للمخرج الألمانى التركى الأصل فاتح أكين، وجاء بمثابة صرخة ضد المذبحة، ويشكل برؤية أكثر واقعية نتائج تلك المذبحة التى تركت تأثيرا سلبيا كبيرا. وجاءت شهادة اكين نفسه بالقول إن «الشعب التركى يعتبر الحديث عن الجرائم التى ارتكبتها الدولة العثمانية بحق الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، من المحرمات، التى يخشى الحديث حولها من قرب أو بعيد». ويصورالعمل بل ويناقش المذابح ضد الأرمن فى الحرب الأولى، والتى تنكرها الحكومات التركية، وأشار فاتح إلى أن المشكلة التى واجهته كانت فى الرقابة الداخلية للمجتمع التركى، وأن بعض أصحاب دور العرض عبروا له عن مخاوفهم من عرض الفيلم داخل تركيا. غير أنه عاد وقال إن الكثير من الأتراك بدأوا أخيرا فى استيعاب ما جرى ضد الأرمن، موضحا أنه اختار عدم تكرار كلمة «مذبحة» فى الفيلم الذى تبلغ مدته 138 دقيقة، لأن الكلمة عندما تتكرر لا يكون لها معنى، وهو ما جعله يركز على أجزاء معينة فى هذه المذبحة لتوضيح الحقيقة. والواقع أن اكين قدم بصورة مدهشة وسيناريو ذكى وحوار ملهم بواقعيته وموسيقى إلكسندر هاكس الموحية مجازر الإبادة الجماعية عام 1915، حيث قام الأتراك بالتعاون مع عشائر كردية بإبادة مئات القرى شرقى البلاد فى محاولة لتغيير ديموغرافية تلك المناطق، وهى واحدة من أقسى وأبشع المجازر الإنسانية فى القرن الماضى، وكان جريئا فى تناول هذا الملف الشائك رغم أصوله التركية، والواقع أيضا أنه قدم رؤية محايدة عن هذه الأحداث تعتمد على الحقائق التاريخية وهو يرصد لحظات إنسانية شديدة الخصوصية مع رحلة بطله الذى تعرض للاضطهاد والتعذيب، وفقد أسرته، ولم يتبقَ منها سوى واحدة من ابنتيه التوأم التى طاف البلاد حتى يجدها. لماذا قدم فيلما عن مذبحة الأرمن؟ السؤال فرض نفسه على فاتح اكين، وأجاب: أنا بالأساس أنتمى لأصول تركية، وهو ما يعنى أن أهلى وأجدادى هم من قاموا بهذه الجريمة، وهناك الكثيرون منهم حتى الآن لا يريدون الاعتراف بهذه المجزرة، وهو ما جعلنى أعتبر الفيلم نوعا من التكفير بهذه الجريمة لتوضيح الحقيقة أمام العالم كله. وهناك أيضا الفيلم الايطالى «مزرعة القبّرة» إخراج الأخوين تافيانى، عام 2009 والفيلم هو السيرة الذاتية للكاتبة الإيطالية من أصل أرمنى أنطونيا أرسلان، ومأخوذ عن روايتها «مزرعة القبّرة»، ويتناول ما تعرض له الأرمن من إبادة عام 1915، حيث يختصر التراجيديا الأرمنية من خلال سيرة عائلة «أفاكيان»، والتى كانت تنتظر عودة الأخ الأصغر البروفيسور أسادور أفاكيان من البندقية بعد غياب طويل، وحين تقع الإبادة يقتل جميع الذكور شيوخا وشبابا، فيما يرحّل النساء والأطفال إلى حلب ومن ثم إلى دير الزور لتتم هناك تصفية ما تبقى منهم على قيد الحياة. الفيلم فى الحقيقة يبدأ بمشاهد قاسية لعجوز أرمنى على فراش الموت يخيل إليه قبل مفارقته الحياة أن أيام صعبة تنتظر عائلته.. وبعد أيام أو أسابيع تبدأ الأحداث القاسية بالفعل حين تظهر الأوامر بضرورة جمع كل الأرمن وقتلهم أو ترحيلهم. وقد لجأ الفيلم إلى حد ما إلى لغة وسطية تجلت من خلال العلاقة التى تربط عائلة أفاكيان مع الأتراك، الذين يحضرون جنازة الجد الأرمنى وعلى رأسهم الكولونيل أركان الذى يقدم تعازيه للعائلة بالإضافة إلى الشحاذ التركى ناظم الذى تحتضنه العائلة، كما تتجلى أيضا من خلال حديث الكولونيل أركان بأن الأرمن لا يشكلون تهديدا للأتراك وبأنهم مصدر للاقتصاد، كذلك حديث أحد الضباط الأتراك بقوله أن الأرمن يحرثون حقول كرومهم ويقرأون الكتب، وهم مسالمون. ليس كل الأتراك قتلة، هذا ما يريد الفيلم قوله عبر تلك اللقطات، لكن أيضا هناك من ارتكب الجرائم وقد شاهدنا هؤلاء فى قفص الاتهام فى مشهد المحكمة فى نهاية الفيلم ،وهناك من اجبر على القت، كما فى حالة الجندى يوسف الذى أحب نونيك أفاكيان واضطر لقتلها وقد اعترف بذلك أمام القاضى. وفى النهاية يؤكد الفيلم أن تركيا تتحمل مسؤولية جريمة الإبادة وبخاصة نخبهم السياسية والثقافية عبر الاعتراف بهذه الجريمة والتعويض للأرمن حسب القانون الدولى، ولذلك كانت العبارة الأخيرة فى مشهد النهاية أن الشعب الأرمنى لا يزال ينتظر تحقيق العدالة. باولو تافيانى أحد مخرجى الفيلم قال فى حوار مع مجلة شبيجل أونلاين الإلكترونية: «هذا الفيلم ليس فيلما عن تركيا عام 1915، ولكنه أيضا فيلم عن الحاضر، لقد رأينا مشاهد مماثلة فى البلقان، فى راوندا وفى السودان. نحن الإيطاليون ارتكبنا جرائم قتل والألمان ارتكبوا جرائم قتل. إن الرعب يمكن أن يحدث فى أى زمان وفى أى مكان.. ولكن يبقى السؤال: لماذا نتكتم على المأساة الأرمنية؟». المخرج الكندى اتوم ايجوايان –42 عاما قدم فيلما روائيا عن المذبحة التى تعرض لها الأرمن وهو فيلم «ارارات» نسبة للجبل المطل الذى يقع شرق تركيا وقد كتبه بنفسه بعد أن علم أن أجداده كانوا من ضحايا المذبحة، وقد هرب بعض أقاربه إلى لبنان وبعضهم هرب إلى القاهرة. و«ارارات» الذى قدم عام 2002 ولعب بطولته شارل ازنافور وكريستوفر بلامر، لا يبدأ بنقطة من التاريخ ويستمر فيها، ولا هو يبدأ بشخص يروى ما حدث ثم نعود فى «فلاش باك» إلى الماضى نجتر منه، هناك أكثر من زاوية ورؤية تتمردمن الشكل السردى فى مثل هذه النوعية من الاعمال. فى الفيلم نرى الشاب رافى يعمل سائق سيارة فى الشركة التى تنتج فيلما عن المذبحة الارمنية عنوانه «ارارات»، والدته مؤرخة يتم توظيفها فى الفيلم كمستشارة تاريخية، خصوصا أن الفيلم يتعامل أيضا مع فن الرسام الأرمنى أرشيل جوركى ينطلق رافى إلى تركيا لمهمة جمع حقائق عن المذبحة، وعند عودته يستجوبه ضابط الجمارك عن محتويات أربع علب من الأفلام بحوزته، حيث يشك أنها قد تحتوى على مخدرات مهربة، وعبر الاستجواب الطويل يتنقل بنا المخرج بين موقع التصوير فى الاستوديو وما يحدث فيه تارة والموقعة ذاتها كإعادة سرد تاريخى للمجزرة تارة أخرى. رسالة الفيلم تكمن فى قيمة «الاعتراف والغفران»، الاعتراف من قبل الذين قاموا بالمذبحة والغفران من قبل الذين تعرضوا لها، وذلك بحسب شهادة المخرج نفسه للناقد السينمائى محمد رضا. «أحد أهم شخصياتى فى الفيلم هو ممثل من أصل تركى اسمه على (يقوم به الياس كوتياس) يحاول إقناع رافى بأن ينسى، لكن لا يبدو أن رافى لا يريد أن ينسى. إنه يريد أن يسمع اعتذارا من على، لكن على جيل لاحق لا يعرف عن تركيا نفسها أى شىء». إنجز إيجوايان فيلما يثير الجدل بلا ريب، واعترف أنه أقرب الافلام إلى نفسه، ولذلك قررت عرضه خارج المسابقة فى مهرجان «كان». وقال إيجوايان: «لم أرد أن يقع التداول حول القضية السياسية بين أعضاء لجنة التحكيم التى قد لا يفهم كل أعضائها الدوافع على نحو سليم، فيلم بسيط راقٍ عن مجموعة من الأجيال المتعاقبة تربطهم علاقات إنسانية راقية، تجسد الواقع الأرمينى الذى لم تضمد جراحه بعد». وتدور أحداث (آرارات:2002) حول المجزرة الأرمينية، على يد الأتراك عام 1915، عبر عدة حكايات تتقاطع وتتشابك فى كثير من الأحيان، لكن يبقى الرابط واحدا، وهو الذاكرة التى تأبى أن تفارق الخيال، عبر شخصيات لم ترث فى بحثها عن الهوية غير الوجع والألم. التليفزيون الإيطالى عرض أخيرا فيلما وثائقيا بعنوان «الرجل الغامض» للمخرج روبرتو سورانى والباحث تيتو دى لوكا وهما كانا معا فى رحلة بحث فى تركيا لسنوات طويلة للبحث عن أى أثر لسفينة نوح على قمة وسفوح جبال «ارارات» الأرمنية إلا أنهم تفاجئا أن كل ما يظهر أمامهما هو عبارة عن أدلة وإشارات على الابادة الجماعية الأرمينية، وليس سفينة نوح. أيضا هناك العراقى «عطر السماء» عام 2012، وتم إنتاج الفيلم العام 2012 من قبل المعهد العراقى. وهو من اخراج عباس الوندى وسيناريو لعلى وجيه الذى تناول مذبحة الأرمن 1915، التى بلغ ضحاياها أكثر من مليون مواطن فى الامبراطورية العثمانية بسبب الانتماء العرقى. وهناك أيضا فيلم«امريكاأمريكا» عام 1963 لالياكازان وبطولة الممثل اليونانى ستاثيز يالاليز، الذى قام بدور البطل الأرمنى الشاب (ستافروس). فى فيلم إيليا كازان الذى يروى فيه قصة عمه، يرغب ستافروس فى مغادرة تركيا بعد أن يشهد المذابح التى يرتكبها العثمانيون ضدّ الأرمن فى هضبة أنطاليا، ويخوض بالتالى رحلة شاقة حاملا معه بعض الأوانى الفضية التى تصبح كل ثروته. يتعرف خلال الرحلة فى الطريق، على رجل تركى مسلم، يصلى الوقت فى وقته كما يقولون، ولكنه لا يتورّع عن سرقة الآخرين مبررا سرقاته، بأنه يسطو على كل ما يملكه ستافروس ويتركه مجرّدا يواجه العالم وحيدا فقيرا جائعا. لكن ستافروس يتمكن بمعجزة من الوصول إلى القسطنطينية (اسطنبول)، حيث ينزل لدى عمه الجشع الذى يرغب فى تزويجه من فتاة تنتمى إلى أسرة ثرية، ويكاد يتزوّجها بالفعل، قبل أن يقرر مواصلة حلمه الشخصى بالنجاة فى اتجاه الحلم الأمريكى. وعلى ظهر السفينة التى نجح فى التسلل إليها بعد أن دفع لربانها رشوة، يقيم علاقة مع سيدة أمريكية متزوجة من رجل ثرى عليل، تغويه وتغدق عليه، إلى أن يصل إلى نيويورك، وينجح بالتحايل وبمساعدة الأصدقاء المتعاطفين معه، فى دخول أمريكا، وينتهى به الأمر إلى ماسح أحذية على أرصفة الميناء. ورغم ما بين الفيلمين من عناصر مشتركة، فإن فيلم «أمريكا أمريكا» يتفوّق كثيرا رغم ما فيه من نقاط ضعف، على فيلم فاتح أكين «القطع»، حيث إن العنصر التشكيلى لدى كازان أقوى وأكثر تأثيرا. وكذلك استخدامه المرموق للموسيقى ونجاحه فى إعادة تجسيد مدينة اسطنبول فى أوائل العشرينات من القرن الماضى، وكيفية استخدامه الضوء فى التشكيل بالأبيض والأسود، ونجاحه الباهر فى تحريك الممثلين. هناك اتفاق بين الفيلمين فى فكرة المذبحة، وفى الرغبة الملحة لدى البطل فى الهرب، فى النجاة، وفى فكرة الرحلة الطويلة الشاقة التى يتعرض خلالها للكثير من المفاجآت. ولكن بطل كازان كان مدفوعا بالحلم الأمريكى، أى بالرغبة فى تحقيق الانعتاق فى «العالم الجديد» من أسر العبودية، والفرار من ذلك العالم الخانق فى الشرق، فى تركيا العثمانية التى تستخدم الإسلام سلاحا أيديولوجيا ضدّ الأقليات من السكان، والتى واجهت عائلته فيها الويلات، وكانت صورة أمريكا وقتذاك، لا تزال صورة رومانسية، وإن كان الفيلم ينتهى ببطلنا فى أسفل السلم الاجتماعى كماسح لأحذية على رصيف ميناء نيويورك، فى إشارة قوية إلى ما ينتظره من متاعب كثيرة فى «جنة المهاجرين». الفنان المصرى العالمى عمر الشريف كان له هو الآخر نصيب من تلك الأفلام التى تناولت مأساة الأرمن، من خلال فيلم «مايريج» الذى قدمه المخرج الفرنسى الأرمانى هنرى فيرنوى عام 1991. ويروى الفيلم قصة عائلة أرمنية تشبه قصص الأرمن فى مارسيليا التى وصلوها عام 1920، حيث صور هنرى ماضيها الذى يتجلى فى الطفل «اشود مالاكيان»، الذى فر من المجزرة الأرمنية ونزل فى ميناء مارسيليا مع والده الذى يلعب دوره عمر الشريف ووالدته التى تجسدها كلوديا كاردينالى وعمتيه. وعرف هنرى فيرناى ميناء مارسيليا فى نفس الوقت مع مئات اللاجئين الأرمن، ونقل من خلال الفيلم كل التفاصيل الصغيرة، حيث استعمل سفينة بضائع قديمة كسفينة مادزيكيريكوس، التى جاءت عائلة مالاكيان على متنها، وحملت الفيلم شهادة فى شكل إشادات للطائفة الأرمنية فى هذا البلد.