لست صاحب العنوان، ولكننى سمعته من الشيخ محمد الغزالى أثناء حديث له عن المرويات التى تحفل بها كتب السير والتاريخ، إذ قال إن فيها الصحيح الذى صدق والسقيم الذى مورس فيه الكذب والتدليس من قبل الدساسين والوضاعين. وهؤلاء الأخيرون خلفوا لنا أخبارا فاسدة اعتبرها الشيخ قمامة التاريخ وليست وقائعه، لكن الكارهين اعتبروها ثروة وظفوها فى توجيه المطاعن للإسلام وأهله. وكان رأيه دائما أن تلك المطاعن أتفه من أن ينشغل بها المسلمون، لأن فى حياتهم ما هو أهم وأجدى. حين نشر لى يوما ما كتاب «تزييف الوعى»، الذى حاولت فيه الرد على دعاوى غلاة العلمانيين، نصحنى الشيخ الغزالى بما لم أنسه وعملت به خلال العقد الأخير على الأقل. إذ دعانى لئلا أشغل نفسى بأولئك النفر من الباحثين الذين يتعيشون على قمامة التاريخ، «وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم» حسب التعبير القرآنى. وبسبب ما هم عليه فإنهم ما برحوا يتصيدون الأقوال الشاذة والوقائع المدسوسة التى تضمنتها «الإسرائيليات» وغير ذلك مما هو مشين ومهين، لتشويه عقيدة الإسلام وحضارته. زاعمين أنهم رجعوا فيما يكتبون إلى كتب التراث. وفى أحيان غير قليلة فإن ذلك يتم بما لا يدع مجالا لافتراض حسن النية. آية ذلك أن بعض علمائنا ومؤرخينا أوردوا العديد من الوقائع الشاذة والروايات المدسوسة للرد عليها وإثبات بطلانها. ولكن نفرا من هؤلاء دأبوا على انتقاء تلك الوقائع والتركيز عليها، دون الإشارة إلى ما ورد فى الرد عليها (على طريقة لا تقربوا الصلاة). بين باحثينا الجادين من استفزهم مثل هذا العبث. فلجأوا إلى تتبع المصادر التراثية التى ادعى هؤلاء الرجوع إليها. وكان الدكتور محمد عمارة فى مقدمة هؤلاء. وكتابه «الإسلام بين التنوير والتزوير» تضمن خلاصة جهده فى هذا الباب. لكن الباحث منصور أبوشافعى أنفق وقتا أطول فى كشف الأغاليط ومحاولات التدليس، حتى بدا وكأنه نذر وقته وجهده لهذه المهمة. فأصدر ثلاثة كتب فضح فيها الجرائم العلمية التى ارتكبها هؤلاء وسعيهم للطعن فى كل ما له صلة بالإسلام. وقد صدرت تحت العناوين التالية: مركسة الإسلام مركسة التاريخ النبوى التنوير بالتزوير (المقصود بالمركسة هو قراءة بعض الشيوعيين من أتباع كارل ماركس لعقيدة الإسلام وتاريخه). لا يتوقع منى أحد أن أستعيد ما تحتويه سلة القمامة من بذاءات ومطاعن طالت نبى الإسلام والقرآن وصحابة رسول الله مما قد يعد ترويجا لها. لكنى سأروى واقعة اكتشفها الدكتور محمد عمارة، حين قرأ لواحد من إياهم مقالا سفَّه فيه السلف الصالح، ونقل عن أحد كتب التراث رواية تحدثت عن أن واحدا من أبرزهم لم يكن يحسن الصلاة، وقصد بذلك الصحابى الجليل سعد بن أبى وقاص، أحد العشرة المبشرين بالجنة. وحين حقق الدكتور عمارة المسألة، وجد فى صحيح البخارى أن أعرابيا ذهب إلى الخليفة عمر بن الخطاب وشكا إليه الصحابى الذى كان واليا على الكوفة قائلا: إنه كان يطيل فى الركعتين الأولتين لصلاتى الظهر والعصر، ويخفف فى الركعتين الأخيرتين. وهو ما أثار انتباه الأعرابى فظن أنه لا يجيد الصلاة. وقال العبارة فعلا لخليفة المسلمين، وحين رجع الفاروق إلى ابن أبى وقاص ذكر أنه يصلى بالناس صلاة رسول الله، التى كان يؤديها بهذه الطريقة. عندئذ علق سيدنا عمر قائلا: صدقت، هذا ظنى بك. لكن صاحبنا تجاهل كل ملابسات القصة ولم يتخير منها إلا تلك العبارة التى أراد بها أن يهدم صورة السلف فى ذهن القارئ. إن القمامة وزبائنها موجودن من قديم الزمان، لكننا لم نسمع أن جامعى القمامة كرموا وكوفئوا من قبل الدولة إلا فى هذا الزمان عجبى!