ليس غياب الموضوعية والعقلانية والتوازن عن المجال العام فى مصر بمرتبط بمجرد حضور مروجى الحل الأمنى كحل وحيد فى مواجهة الإرهاب والعنف وبتعالى أصوات المطالبين (وبمقولات ذكورية رديئة) بثلاثية الإبادة/التصفية/الفرم وأنصار تجاهل مقتضيات العدل وسيادة القانون، بل للغياب هذا علاقة سببية مباشرة بسيطرة الأمنيين، وأتباعهم شبه المطلقة على المجال العام عبر وسائل الإعلام وتنكيلهم المستمر برافضى الانزلاق إلى هيستيريا العقاب الجماعى وبدعاة المزج بين الحل الأمنى وبين الحلول التنموية والمجتمعية والقانونية وبالمدافعين عن ضرورة احترام الحقوق والحريات وتداعيات ذلك الإيجابية لجهة إنهاء قابلية بعض البيئات المحلية فى سيناء وربوع أخرى لإجرام عصابات الإرهاب أو تغيير الواقع الكارثى المتمثل فى الامتناع عن التضامن الفعال فى مواجهة عصابات الإرهاب بسبب التنمية المعطلة والحقوق والحريات المهدرة. فحضور مروجى الحلول الأمنية والمستخفين بمقتضيات العدل وسيادة القانون فى المجال العام هو أمر يحدث دائما ما أن تعانى المجتمعات والدول الوطنية من شرور الإرهاب والعنف والتطرف، تستوى فى ذلك المجتمعات والدول الديمقراطية التى تعيش فى ظلها أغلبية سكان عالم اليوم والمجتمعات والدول غير الديمقراطية التى تمسك بمقدراتنا نحن فى معظم بلاد العرب وبمقدرات شعوب أخرى فى مناطق أخرى. على سبيل المثال، تتعالى دائما فى أعقاب الهجمات والتفجيرات الإرهابية التى تطول الغرب أصوات اليمين المتطرف واليمين العنصرى وأصوات المفتونين بالأدوات العسكرية والحلول الأمنية الانفرادية مطالبة ليس بمواجهة عصابات الإرهاب وتقديم المجرمين إلى العدالة الناجزة، بل ب«إبادة الإرهابيين»، وإنزال «العقاب الجماعى» بذويهم (المسلمين) بالطرد والتهجير من الغرب دون اعتبار لمقتضيات العدل وسيادة القانون والسلم الأهلى، وشن «الحروب» لتعقبهم وتعقب الممولين والمحرضين عالميا دون اعتبار للنتائج الكارثية خلال العقود القليلة الماضية لدورات العنف والعنف المضاد ولمتوالية الاستبداد التدخل الخارجى الإرهاب التى ساهم الغرب فى إغراق بعض المجتمعات والدول العربية والإسلامية فى رحاها. إذا كانت أصوات التطرف والكراهية والإبادة والعقاب الجماعى والافتتان بالأدوات العسكرية والحلول الأمنية تتعالى فى ديمقراطيات الغرب فى لحظات/فترات مواجهة الإرهاب والعنف، فلا عجب أبدا فى أن تحضر وتتعالى أيضا فى مجالنا العام المصرى ونحن من بين شعوب العالم الأطول معاناة من غياب الديمقراطية ومن سطوة السلطوية بمقدراتنا. غير أن أزمتنا فى مصر تحدث بسبب السيطرة شبه المطلقة للأصوات هذه على المجال العام ونقاشاته، وتنكيلها المستمر بغيرها عبر أدوات متنوعة لنزع المصداقية الأخلاقية والوطنية وعبر استراتيجيات إسكات مختلفة، وما يترتب على ذلك من غياب للموضوعية وللعقلانية وللتوازن. أزمتنا فى مصر لا تأتى من مجرد حضور مثل هذه الأصوات، فهى لا تملك الكثير من الخبرات التاريخية أو الشواهد المجتمعية أو الحجج الرشيدة للتدليل على إمكانية النجاح فى المواجهة المصيرية مع الإرهاب والعنف حين تختزل فى أدوات عسكرية وحلول أمنية انفرادية وحين يزج بالمواطن والمجتمع والدولة إلى هيستيريا العقاب الجماعى، ويسهل من ثم تفكيك وتفنيد مقولاتها ودفع المجال العام بعيدا عنها. إلا أن الشرط الجوهرى لحدوث ذلك، وهو الشرط المتحقق فى الديمقراطيات والمتعثر لدينا، يتمثل فى وجود أصوات أخرى فى المجال العام تبحث بثقة عن المزج بين العسكرى والأمنى وبين التنموى والمجتمعى والقانونى دون خوف من تخوين أو تشويه أو تعقب، وتصر على المطالبة باحترام سيادة القانون والحقوق والحريات كمقومات لاستعادة سلم أهلى ضائع وتوافق وطنى مفتقد دون هواجس القمع والملاحقة، وتشترك بمسئولية وطنية فى مواجهة الإرهاب والعنف وتعبر بصدق عن حزنها على الدماء والضحايا والخراب والدمار، وهى تفسر للرأى العام دون تبرير (ولنضع تحت دون تبرير عشرات الخطوط) العوامل الكامنة وراء قابلية بعض البيئات المحلية لإجرام عصابات الإرهاب أو امتناع بعض القطاعات الشعبية عن التضامن الفعال فى مواجهتها وعلاقة ذلك بالتنمية المعطلة وبالمظالم المتراكمة وبانتهاكات الحقوق والحريات المتكررة. هنا أزمة مجالنا العام، وهنا أيضا دورنا ومسئوليتنا الوطنية