نادراً ما يكتب المبدع الحقيقى بدافع الواجب، لكن هذا ما حدث مع الروائى الكبير محمد المنسى قنديل فى مجموعته الأخيرة «ثلاث حكايات عن الغضب»، الموجهة إلى الفتيات والفتيان فى سن القراءة، بثلاث حكايات عن ثورة يناير، تماهت فيها الأزمنة والثورات، وشخصيات من قبل ومن بعد، وجمعت النبوءة بالحلم وأثريهما على مرآة الواقع. يقول: «هكذا خطرت الفكرة فى ذهنى، بعد صعود القوى الدينية وركوبها موجة الثورة، أدركت أنهم سيغيرون كل شيء لصالحهم، ومثلما سطوا على الثورة سوف يسطون على المناهج الدراسية ويغيرونها، لذلك فكرت أن اكتب للأطفال فى سن القراءة من 12 18 سنة، معيداً كتابة الوقائع التاريخية، لأنها وإن بدت الآن أحداثا يومية، سيجعلها الغد وقائع محل خلاف، وسيظهر الأفاقون، ومحترفو التزوير ليكتبوا التاريخ من وجهة نظرهم». أيضاً الثورة موضوع شديد الصعوبة عندما يتعلق الأمر بالكتابة الأدبية، لأن نسبة الخيال والواقع شيءٌ يعوز ضبطه زمن أطول، خاصةً و«الثورة لم تنته بعد، وهناك فصول جديدة على وشك أن تبدأ»، ربما لذلك ضمت المجموعة ثلاث قصصٍ فقط، وهو ما يفسره تعليق قنديل بكون هذه القصص «برهة توقفٍ لالتقاط الأنفاس، بعد زمنٍ من الانهماك فى كتابة روايةٍ طويلةٍ». تؤطر فكرة الثورة الحكايات الثلاث ل«الغضب»، بكل ما يتصل بهذا الحدث من مفردات، مثل: حلم، نبوءة، ميدان، شهداء، بلطجية، مشرحة، عَلم، عِلم، نيل، أولاد شوارع، شرطة، والحروف النورانية لكلمة « ا ر ح ل». ويستعين الكاتب بشخصية أديب نوبل «نجيب محفوظ» كمفتاح للحكى فى القصة الأولى، ربما لأنه الأب الشرعى للحكاية المصرية، ومهندس الصراع التاريخى بين الفتوات والحرافيش، والأكيد أيضاً أنه أحد «جنود مجهولون خلف الثورة، من الواجب أن نعبر لهم عن امتناننا». فى هذه القصة «حكاية المطبعة القديمة» التى تتخذ من مقهى «ريش» الشهير، حيث كانت جلسة محفوظ الأسبوعية مكانها، تحط طيور النيل عند كفى «فلفل» نادل المقهى الذى كان يريد التقرب للأستاذ بكتابة القصص، حتى إذا كتب قصته الأولى عن الشاب الذى هرب من عصى الأمن فى الميدان، إلى قبو «ريش» الذى حمى الثوار من الانجليز زمن ثورة 1919، مصطدماً بمطبعة منشورات الثورة وهى تقذف عشرات الصور لشهداء قدامى، قبل أن تتبعهم بشهداء لثورةٍ مستقبليةٍ ستكونها ثورة يناير 2011، يجد «فلفل» الأستاذ وقد بدأ يبكى «من أجل كل الشباب الذين سيدفعون ثمن الثورة»، قائلاً «هذا اليوم الذى قلت إنه سيجيء.. يوم الثورة.. كنت أتمنّى أن أعيش حتى أراه..». فى الحكاية الثانية «لاعب التنس» تعلو فكرة الصراع سواء بين اللاعب ومدربه الذى اغتاظ من تفوقه عليه، وانقلابه على تقاليده القديمة، أو بين أبى اللاعب، هذا الذى حط حاجزاً زجاجياً بين ابنه وكل ما حوله، تجاوزه اللاعب بصورةٍ ماهت الأزمنة والأماكن ونقلته من أمام شاشة الكمبيوتر فى غرفته إلى ميدان الثورة، ثم إلى مشرحة «زينهم»، ثم نقلت والده الذى كان جالساً قبالته فى الغرفة إلى المقعد المقابل لقاتل ابنه. أما الحكاية الثالثة «الولد الذى يكلم النهر» فيظهر فيها ميدان الثورة بزمنه وتفاصيله، ورموزه الحقيقيين ووقائعه كذلك ك«موقعة الجمل»، حيث أحد أولاد الشوارع ممن لا يحنو عليهم أحد سوى النهر، حتى أنه يحدثه بنفسه، يستغله ضابط فاسد، ويأمره بإلقاء قنبلة فى مخيمات الثوار، لكن دفئاً تمنحه له إحدى الثائرات، تولت إطعامه وحمايته وتعليمه، جعله يرى خلاصه فى نجاح الثورة، وحياة هؤلاء الثوار، فيتوجه بقنبلته إلى جوف النهر، محتمياً بالميدان. فى هذه الحكايات المغترفة من الحياة اليومية للثورة، والناس وحياة الكاتب ذاته نجدها بوصف الكاتب ذاته: «حكايات حقيقية وأضفت إليها لمسة من الخيال»، فقد كنت منهمكا فى كتابة رواية طويلة، ثم توقفت، احسست اننى لن استطيع المواصلة، وفى هذه اللحظة قال لى ابنى ونحن بعيدين عن ارض الوطن، لقد حرمتنى من المشاركة فى الثورة، قلت له: لقد حميتك من الموت، ثم شعرت بالحزن وبالخجل من نفسى، فلم يكن أعز من الشباب الذين ضحوا بأنفسهم، ومن الشباب الذين استشهدوا، وبدأت الكتابة من القصة الوسطى، حكاية لاعب التنس، وهى حكاية حزينة، لأنها عن الشهداء، ولأن الثورة المصرية ثورة حزينة». أما الخيال الذى تضفرت به تفاصيل الحكايات فاعتبره الكاتب اللغة الشرعية فى مخاطبة الطفل، لأن ذهنه قادر على عبور الحاجز الذى يفصله عن الواقع بسهولة، غير أنه بحسبه شىء غير الواقعية السحرية، بل وأقدم عمراً منها، حيث: «يستمد جذوره الأولى من ألف ليلة وليلة». ويلفت صاحب «يوم غائم فى البر الغربى إلى أهمية الخيال فى حكاياته الثلاث، بوصفه ضرورة لتكثيف الاحداث فى القصة ونقلها إلى مرحلة أخرى، حيث فى القصة الأولى تدور المطبعة لوحدها وتسحب أوراقاً من المستقبل تحمل صور الشهداء، وفى القصة الثانية تذوب الحواجز والمسافات ليجد الأب نفسه فى مواجهة، قاتل ابنه وأبناء الناس الآخرين، وفى القصة الثالثة يعلو نهر النيل، سيدنا وأكسير حياتنا، ليغمر أرض الميدان، ويزيل من عليها آثار الضغائن والصراعات كأنه يبارك الثورة الوليدة». أخيراً يعكف المنسى قنديل على كتابة رواية جديدة، بلغ فيها مرحلة متقدمة، وبدأ استكشاف تخوم النهاية، يرى أنه مغامرة جديدة بالنسبة له وللرواية العربية، أما كتب الثورة، فيتنبأ بأنه سيكون هناك العشرات منها، وقد يكتب هو بعضها، لكنه يوكل لجيل الشباب المهمة الأكبر، لأن الجميع الآن فى حاجة لفرصة لالتقاط الانفاس، والانتباه لكل تفاصيل هذه الملحمة الجديدة، حتى تخرج أعمال الثورة بقدر هذه اللحظة التاريخية.