لتتعرف على صاحب الكلام، نبدأ بالبحث عن الغاية التى يريدها ذلك الكلام، هل هو كلام يسعى لربح وكسب لشخص أو لفئة من فئات البشر؟ هل هو تمجيد لفصيل أو لجيل أو لمهنة من المهن؟ هل هو إعلان مدفوع الأجر عن شخص أو نشاط ما؟ هل هو إعلان مجانى مثل الإعلانات السياسية التى تصدر عن حزب أو حكومة أو دولة أو منظمة دولية؟ تعال نسأل القرآن عن غايته: القرآن يصرح أكثر من مرة بهذه الغاية ((.... لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِِ)) إبراهيم (1) هكذا فجميع البشرية تتخبط فى ظلمات متعددة، فمن الناس من يعانى ظلمة واحدة، ومنهم من يعانى أكثر من ذلك، ومنهم من يعيش فى الظلمات كل عمره لا يدرى حتى طبيعة النور وجدواه، وهذه الظلمات التى تسيطر على غالبية بنى آدم ظلمات يمكن تقسيمها إلى أنواع.. كما يمكن تقسيم كل نوع إلى درجات.
2
وأبرز هذه الظلمات أولا «ظلمة الجهل» والتى يجب الخروج منها إلى نور العلم، ودرجات الجهل كثيرة وأكبرها:
1 ظلمة جهل الذات والنور الذى ينير الذات هو «علم الذات بحقيقتها» فتعلم أنك بشر مكرم لا ينبغى أن تهين نفسك، ولا تُهان ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ...)) الإسراء (70).
2 ظلمة الجهل بالدور الإنسانى، والنور الذى يبددها أن تعلم أنك سيد المخلوقات ودورك هو إعمار الكون والتنسيق بين المخلوقات لإنتاج الخير، فلا يصح لك أن تتورط فى الإفساد ((.. هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...)) هود (61).
3 ظلمة جهل القدرة الذاتية ومن أشد الظلمات أن يجهل الإنسان ناحية التميز التى اختصه الله لها، فالله خلق كل إنسان مجهزا لعمل معين وقدرة موجهة لذلك العمل، إذا مارسها حقق امتيازا وسبقا، وإذا تجافى عنها واشتغل بغيرها كان أقل إنتاجية ويهبط من الامتياز إلى أدنى فأدنى. وهذا الجهل تعانى منه الشعوب والأفراد، إذ يلقنون الأبناء تعليما خاطئا فترى الوالدين يختاران لابنهما التخصص الذى يريدانه هما أو ما يتمناه الابن، أو يتوغل فيما تتيحه الدولة من برامج التعليم دون دراية، والمفروض أن يقوم المجتمع أو الدولة بفرز قدرات الناشئين والتعرف على مجالات ونواحى التخصص العلمى والعملى الذى يحقق فيه الفرد تميزا أو تقدما (( أأَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)) النساء (54).
4 ظلمة الجهل بوحدة الأصل الإنسانى حيث مساواة البشر بعضهم البعض، وهذه ظلمة من أشد الظلمات تجعل الإنسان حائرا غير مستقر، ولو أدرك الإنسان أن جميع البشر إخوة له وأكفاء له لوفر قدراته لما ينفعه (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا..)) الحجرات (13).
5 ظلمة الصراع البشرى فما دام كل البشر إخوة، فما جدوى الحرب، فالأولى أن يتقارب البشر ويعاون بعضهم بعضا ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) المائدة (2).. هذه خمسة مستويات من ظلمات الجهل التى جاء القرآن ليحاربها مع الظلمات الأخرى، فمن هو الرابح إذا علم كل إنسان قدرات نفسه وأحسن استثمارها؟ ومن المستفيد إذا أدرك الإنسان أنه سيد مستخلف فى إعمار الحياة ؟ ومن الفائز إذا تعرف كل إنسان على ما يحسنه ويتقنه فيتخصص فيه؟ وكذلك إذا أيقن كل إنسان أنه أخ لكل إنسان آخر فالجميع أبناء آدم وحواء، فلا شك أن هذا اليقين يجعله باحثا عن السلام رافضا للحرب غير محبذ لها. وإذا سأل كل إنسان نفسه هل تستطيع أن تعيش بمفردك؟ فلا شك أن الإجابة بالنفى وما دام الإنسان لا يمكن أن يعيش بمفرده فلابد من التعاون والتكامل بعد التعارف والتآلف، هذه بعض الظلمات التى جاء القرآن يبددها. فمن يا ترى صاحب هذا القرآن ومنزلّه؟!.