قبل ساعات معدودة من حلول الذكرى الخامسة والثمانين للمفكر الاستراتيجي الراحل جمال حمدان، لا بد وأن يكون الاحتفال بالحضور وليس بالغياب، بل ويمكن القول دون تزيد إن مثقفا في حجم وقيمة وقامة جمال حمدان لا يزيده الموت إلا توهجا في الذاكرة الثقافية المصرية، ولن يزيده الغياب سوى المزيد من الحضور في وعي أجيال تلو أجيال من المصريين وضمير بلاده ووجدان أمته.
ولعل ما حدث في الدورة الحالية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب عندما حظي العمل الفكري الرائد لجمال حمدان "شخصية مصر" بإقبال منقطع النظير من رواد المعرض، وخاصة من الشباب، مجرد إشارة من إشارات عديدة دالة على حجم حضوره الثقافي في الحياة المصرية والعربية الراهنة، فيما كان قد أوضح في مقدمة هذا السفر الموسوعي نظرته العميقة للجغرافيا، التي تخصص فيها ليقول إنها "علم" بمادتها وفن بمعالجتها وفلسفة بنظراتها.
وجمال حمدان الذي ولد يوم الرابع من فبراير عام 1928 قضى يوم السابع عشر من إبريل عام 1993 في حريق غامض يرى البعض أنه لا يخلو من شبهات اغتيال، خاصة مع اختفاء بعض أوراقه ومخطوطات كتب جديد.
اسمه بالكامل جمال محمود صالح حمدان، هو من مواليد قرية "ناي" محافظة القليوبية، وعرف بأسلوبه الأدبي البديع، فيما حصل على الدكتوراه في فلسفة الجغرافيا من جامعة ريدنج البريطانية عام 1953.
ولم يكن حمدان مجرد عالم نابغ في الجغرافيا، وإنما كان بحق النموذج الفذ للمفكر الاستراتيجي الوطني المصري، وأحد كبار المفكرين الاستراتيجيين في العالم.
ومن أعماله الفكرية وكتبه العديدة: "دراسات في العالم العربي" و"بترول العرب" و"المدينة العربية" و"اليهود أنثربولوجيا" و"6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية" و"قناة السويس".
اضطر جمال حمدان عام 1963 للاستقالة من عمله كأستاذ مساعد ضمن هيئة التدريس بقسم الجغرافيا في كلية الآداب بجامعة القاهرة في صفحة حزينة من صفحات نوابغ ومبدعي الثقافة المصرية الذين تعرضوا لكثير من الكيد والظلم جراء الحقد على مواهبهم وقدراتهم الإبداعية.
لكن حمدان حول عزلته بعد الاستقالة من عمله الأكاديمي الرسمي إلى ما يمكن وصفه "بالعزلة الإيجابية الخلاقة داخل صومعته المباركة" في شقته المتواضعة الضيقة فكان جامعة بأكملها، وهو ينتج أروع وأهم أعماله بعيدا عن صغائر الحياة وصغار بعض البشر.
صاحب الوجه النجيب العنيد المؤنس في الحق: تحدث فنحن نسمعك.. تحرك وأشهر فكرك المتفرد: نحن نراك فمثلك لا يموت.. ولسوف تلهمنا وتلهمنا فنستعصي على الهزيمة ونتابع خطاك، وإن ضاعت دروب ودروب.