من داخل أروقة لجنة التحكيم نحاول أن نكشف الغطاء عن ملامح صالون الشباب فى دورته ال23 الذى افتتح الأسبوع الماضى وأعلنت جوائزه التسع عشرة لتكون ميزان حرارة الحركة الفنية الصاعدة. بعد صمت مطبق، تم الإعلان عن أعضاء لجنة تحكيم صالون الشباب الثالث والعشرين الذى تم افتتاحه قبل الأسبوع الماضى بقصر الفنون داخل ساحة الأوبرا المصرية وتم الإعلان عن جوائزه ليستمر العرض حتى 24 ديسمبر الحالى. ولم تكن هذه هى السمة الوحيدة التى كانت من مستحدثات هذه الدورة من صالون الشباب، بل سعى القوميسير العام المسئول عن هذه الدورة واتجاهاتها وتنظيم العرض ومفهومه وجمالياته، الدكتور ياسر منجى، أستاذ الحفر بالفنون الجميلة، أن يجعل من هذه المسابقة المهمة مثالا للالتزام لتضاهى المسابقات العالمية التى يتسابق عليها الشباب. فكان الالتزام بمعايير الترشح للصالون ومراعاة الجدول الزمنى المحدد والشفافية فى الاعلان عن نتائج لجان الفرز من أهم النقاط التى حرص عليها، متمسكا بشعاره الأثير «الحيدة والنزاهة» بالإضافة لتدريب وتعويد شباب فى بداية مشوارهم الفنى على الالتزام بشروط المسابقات واحترامها. وعلى الرغم من هذا الالتزام فيما يخص المعايير، كانت هناك حرية تامة فى تناول الاتجاهات المختلفة التى تعبر عن فكر الفنان، حيث حرص الفنان ياسر منجى على عدم تحديد تيمة أو موضوع محدد يسلط على رقاب الفنانين ويوجه ابداعه، بل جعل الشعار الجاذب للفنانين المشاركين هو «اتجاهك انت».
كواليس التحكيم
وكانت تجربة الانتقال من النقد الفنى إلى صفوف لجنة التحكيم تجربة غنية، تقرب المتلقى للعمل الفنى من فكر الشباب ومهاراتهم وتعثراتهم فى أحيان كثيرة. حيث شاركت كاتبة السطور فى لجنة التحكيم التى رأستها الفنانة نازلى مدكور بعضوية الفنانين يسرى القويضى، سمير فؤاد، إيمان أسامة، أيمن لطفى، عادل هارون، والكوريتار مى ينى والناقدة فاطمة على. وصار تقييم العمل الفنى ليس مجرد القراءة التقييمية المتشددة، ولكن الانفتاح على منتج الشباب اليوم فى اللحظة الزمنية الراهنة، وعلى زخم كثيف من الأعمال تنافس فيها 189 فنان بمجموع أعمال 205 أعمال فنية فى جميع المجالات، استحدث الصالون هذا العام أيضا ندوة تجمع بين الفنانين والمحكمين ومنظمى العرض من قصر الفنون لمناقشة حيثيات منح الجوائز.
وبالإضافة إلى التناغم والحوار الفعال الذى غلب على جلسات التحكيم فى مراحل الفرز أو اختيار الجوائز، فقد كان هناك ملمحان يستحقان التوقف لدى هذه اللجنة. الملمح الأول هو إعلاء القيمة الإبداعية بغض النظر عن التقنية المستخدمة، وهو ملمحا جديدا ومعاصرا على هؤلاء التقليديين ومنهم كاتبة هذه السطور الذين دأبوا على تقييم العمل الفنى بالنظر للجهد المبذول فيه حتى يكون جديرا بالجائزة، بينما الرؤية الفنية المعاصرة تراهن على استخدام أى من التقنيات الرقمية من أجل ابتكار مفهوم جمالي جدير بأن يكون عملا فنيا. هذا ما حدث مع بعض جوائز الصالون العشرة (وقيمتها 10 آلاف جنيه) التى حصدها فنانون فى مجالات الكمبيوتر جرافيك أو الرسم الذى يعتمد على الجرافيك فى إنجازه. المثال الأول كان للفنانة أميرة سعد محمد التى قدمت شكلين لرجل ذى لحية ولمجند، وقد ظهر تفاصيل رسم المخ من وراء البورتريه وقد علتها علامة ممنوع الدخول كما لو كان هناك إحجام تام عن إعمال العقل والتفكير. وبالمثل كان العمل المبدع فى الكمبيوتر جرافيك لحسام الدين مصطفى الذى قدم رباعيا يكمل أحدهما الآخر، ويحاكى العلاقة التى ربطت بين العسكر والإخوان المسلمين بشكل فنى حتى وإن وضحت رسالته بجلاء. أما المثال الثانى فكان فى الرسم للفنان محمد عطية عبدالجميل الذى اعتمد على التكنولوجيا الرقمية لتنفيذ عمله الابداعى وقدم عملا صريحا مؤثرا لسطوة الكرسى وهيمنته، حيث يجلس رجلا بحلة ثمينة وقد غطى وجهه الصراصير وفاضت وجذب الفئران القارضة نحوه، ليجعلنا نتساءل: هل وجوده هو الذى جلب كل هذا القذر حوله؟ أم أن هذا هو مصيره أن يعتليه الحشرات وتزحف إليه القوارض إلى طريق فنائه؟
الملمح الثانى هو روح «الرأفة» التى غلبت على التحكيم، فحين انتشرت صيحة العمل الفنى ذات الأجزاء العديدة، لم تلجأ اللجنة إلى رفض العمل كلية، وسعت لتقييم بعض أجزائه والاكتفاء بالجانب المتماسك منها بعد إبلاغ اللجنة المنظمة للفنان الشاب، وأعادت بذلك إحياء العمل بعد إعادة توجيهه ليكون مشاركته فى معرض الصالون خطوة أولى فى طريق الفن الصعب.
مؤشرات دورة صالون الشباب ال23
لم يكن الاحتفاء بالفنون المعاصرة مثل التجهيز فى الفراغ والفيديو آرت والبرفورمانس (أو الفن الأدائى) هى الشاغل الأوحد للجنة التحكيم، على الرغم من ميل معظم أعضائها للفنون المفاهيمية والمعاصرة، فإن العمل الإبداعى كان هو الفيصل والمحك. فحصد جائزة الصالون الكبرى، تجهيز فى الفراغ للفنان محمد حمزة، وكان التجهيز الوحيد الذى حصد جوائز الصالون، وعكس تقنيات فنية فائقة بالاضافة إلى رؤية فكرية وابداعية متميزة، حيث قدم حمزة غرفة مكونة من شرائح الأشعة، وانعكست بداخلها أجزاء جسم الإنسان المختلفة، وقد احتل مكان الفقرات والعظام التروس والماكينات، وأظهر رؤية تخييلية جديدة لعلاقة الانسان بالآلة وميكنة العقل وقولبته. أما فن الخزف، فكان أحد اكتشافات هذه الدورة، فلم تعد أعمال الخزف هى مجرد الأوان التقليدية التى ألفناها فى المعارض العامة والصالونات السابقة، بل ظهرت طاقات فنية جديدة تتعامل مع هشاشة مادة الخزف للخروج بها على المألوف. مثل العمل المتميز لمحمد أحمد سعودى (جائزة الصالون) الذى صور هيكلا عظميا رهيفا بشكل تجريدى يميزه الخطوط الدائرية المقوصة التى تحيل الشكل الجاف إلى شكل انسانى كما لو كان يحتضن الزائر. وكذلك العمل الحائز على إحدى الجوائز التشجيعية الأربع لهدى أحمد رجائى هاشم الذى يقدم بالخزف عملا تجهيزيا للوحة برايل المخصصة لقراءة المكفوفين، هل يرمز العمل لتحسس الطريق مع غياب البصر والرؤية الصائبة؟ وفى الندوة التى عقدت الخميس الماضى للنقاش حول حيثيات الجوائز، عبر العديد من المختصين فى مجال الخزف عن مشكلة غياب الاحتكاك العالمى بما وصلت إليه فنون الخزف بعد إلغاء ترينالى الخزف وعدم الاهتمام بهذا المجال الصاعد فى المعارض أو البينالى الدولية التى تعقد فى مصر.
كما أعلت لجنة التحكيم من القيمة الأدبية لجائزة الأكاديمية المصرية للفنون بروما، وهى عبارة عن منحة أسبوعين بالأكاديمية، والتى كانت تعتبر ضمن جوائز الصالون، ورأت اللجنة برئاسة الفنانة نازلى مدكور أنها «جائزة لا تقل قيمة عن الجائزة الكبرى لصالون الشباب، ليس فقط بقيمتها المادية ولكن بالفائدة الفنية المهمة التى تعود على الفنان». وقد نال هذه الجائزة هذا العام عملا نحتيا لكمال الفقى يصور عجلة يقودها أشخاص فى اتجاهات متعاكسة، استعان به القوميسير بذكاء ليعرضها فى البهو عند مدخل قصر الفنون كما لو كانت تعبر حرفيا عن فكر الصالون المتحرر من القيود «اتجاهك انت».