يسعى لبنان دوما، كحال الكثير من الدول الصغيرة التي تحيط بها دولا اكبر، الى تهيئة مساحة لسياسته الخاصة في مواجهة النفوذ المتعجرف للدول الصديقة او التي توفر له الحماية. وبناء على ذلك انتهج رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي خلال الاشهر ال18 الماضية سياسة "التفرقة"، وهو ما وصفه قائلا "قررنا البقاء بعيدا عن الازمة السورية".
غير ان الاشياء لا تبدو سهلة، وهو ما اشار اليه السياسي الروسي ليون تروتسكي في عبارته "قد لا تهتم بالحرب، لكن الحرب تهتم بك." يذكر ان ما يزيد على 100 ألف سوري هربوا بالفعل الى الغرب، بما في ذلك 7500 فلسطيني كانو لاجئين في سوريا.
وفي الشمال اللبناني يحظى الجيش السوري الحر الذي يقاتل نظام الرئيس السوري بشار الاسد بصلات قبلية عبر الحدود، حيث يجد الراحة والدواء والسلاح.
ويعد لبنان ايضا نموذجا مصغرا للصراعات الطائفية والاستراتيجية الواسعة، فالسعودية السنية وايران الشيعية تتصارعان من اجل بسط النفوذ، كما ان الفصائل الموالية والمناهضة للرئيس الاسد تعيش على مقربة من بعضها في مدن سريعة الاحتراق مثل طرابلس.
ولم يكن اغتيال وسام الحسن، المسؤول الامني الاستخباراتي البارز في لبنان، في التاسع عشر من اكتوبر/تشرين الاول سوى استمرار لهذا الصراع.
كان الحسن قريبا من الجماعات السنية في لبنان، وكان ينظر اليه كداعم للمعارضة السورية التي تحارب الرئيس الاسد، فضلا عن كونه في السابق لعب دورا في الكشف عن مؤامرات سورية تهدف الى شن تفجيرات في شتى ارجاء لبنان.
كما ان تصاعد حدة الغضب في صفوف المعارضة السنية اللبنانية تولدت منذ عام 2005 عندما تم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري برعاية سورية واجبرت دمشق على سحب قواتها من لبنان وانهاء احتلال دام ثلاثين عاما.
لكن على مدار السنوات الاخيرة تنامت سيطرة القوات الموالية لسوريا، كما ان حزب الله، وهي جماعة شيعية مسلحة تساندها سوريا وايران، وينسب اليها تقديم اسهامات للنظام السوري تنطوي على الدفع بمقاتلين في اطار حملة تصدي الحكومة السورية للمعارضة،استطاعت التغلب على المنافسين من السنة في شوارع بيروت عام 2008، ورسخت مركزها عام 2011 من خلال تشكيل حكومة جديدة مع الفصائل المتحالفة.
وربما اصبحت الجماعة الان اقوى من الجيش اللبناني ذاته الذي تلقى ما يزيد على 720 مليون دولار مساعدات من الجيش الامريكي منذ عام 2006.
وبناء على هذه الظروف، لم يستطع لبنان "فصل" نفسه عن سوريا.
جيش مكافح
اصبح الخطر الان هو عجز لبنان، الذي دوما يقبل بتسويات واهنة متفاوض عليها، عن مواكبة هذا التوتر.
وان كانت الفصائل السنية ترغب في افشال الحكومة، وهو شيء تشجعه الولاياتالمتحدة، الا انها منذ اغتيال رفيق الحريري فقدت قيادتها.
كما انقسمت اجهزة الامن اللبنانية، حيث ينظر الى قوات الامن الداخلي، وهي فرع تابع للمخابرات كان يخضع لقيادة وسام الحسن الذي اغتيل مؤخرا، كأجهزة سنية مناهضة للاسد، فيما تعد مديرية الامن العام على صلة وثيقة بجماعة حزب الله.
يذكر انه خلال الايام الماضية اثبت الجيش اللبناني انه اكثر قوة مقارنة بالماضي من حيث احكام السيطرة على اعمال العنف، لكن اذا تصاعدت حدة الاشتباكات الى مستويات اعلى فستبدو عثرة قد تعترض سبيل سيطرة السلطات.
ففي عام 2008 تراجع دور الجيش فى التدخل في الاشتباكات التي اجتاحت الشوارع خشية احداث تصدعات طائفية، مثلما حدث في الحرب الاهلية اللبنانية.
لكن ان حدث واصبح العنف مرة اخرى السبيل الوحيد للتعبير عن رفض سياسات الحكومة، فان الجماعة، التي هي بالفعل تعاني القلق ازاء فقد حليفتها دمشق، لن تستسلم ببساطة، وربما سيضطر الجيش الى الاختيار بين عدم التدخل او الانهيار.
ويدعو الزعماء السياسيون اللبنانيون دوما الى التحلي بالهدوء، غير ان سياسات النخبة في البلاد تواجه خطر الانعزال عن الشارع.
وقد يحدث ذلك بوجه خاص اذا بزغت مثل هذه الاستفزازات مثلما حدث في واقعة اغتيال وسام الحسن او تخطيط المزيد من المؤامرات السورية داخل لبنان.
حتى وان تلاشت الاحتجاجات في الايام المقبلة، سيظل النظام السياسي الهش اللبناني الاكثر عرضة على نحو ينذر بخطر الخضوع للنفوذ السوري.