منذ أكثر من نصف قرن، صدر من هذه المنظمة التى نقف الآن فى رحابها «الإعلان العالمى لحقوق الإنسان»، متضمنا حقوقا ومبادئ أصبحت من المرجعيات الهادية للضمير الإنسانى، وإن كانت أغلب البشرية لم تزل تطمح لتفعيلها. وقد أخذت هذه الحقوق والمبادئ تكتسب أبعادا أسمى وأرقى.. ولكن ما معنى حقوق الإنسان إذا بادت الحياة كلها، بإنسانها وحيوانها ونباتها؟ لو غفلت الإنسانية عن التهديد بالفناء؟
الإنسانية الآن وصلت بتأثير تزايد الوعى وذيوع المعرفة إلى إدراك أخطار النمو غير المنضبط، وإدراك الآثار الكارثية لهذا النمو من إنهاك متزايد للطبيعة، مما يهدد ظاهرة الحياة كلها، بما فى ذلك الحياة الإنسانية.
لكن إدراك الإنسانية المتصاعد للأخطار المحيطة بظاهرة الحياة ذاتها تقابله معوقات لجهودها فى التصدى لهذه المخاطر؛ فقد ورثت الإنسانية فى مسيرة تطورها حواجز وعراقيل من ماضيها تعوق تكاملها ووحدة عملها.
لقد أصبح من الواضح أن حجم العمل والموارد اللازم حشدهما لإنقاذ الحياة يفوق ما يمكن أن توفره الدول منفردة أو حتى فى تجمعاتها الإقليمية.
وأصبح من الواضح أيضا أن النظم الاقتصادية والسياسية القائمة ليس بإمكانها أن تعمل على الوقاية أو الخلاص من تلك المخاطر، أو حتى معالجة آثارها، بل هى على العكس تضيف إليها.
ذلك أن النظم الاقتصادية والسياسية السائدة تعتمد سياسات حفز النمو بلا رادع، بل وتعلى من شأن التنافس فيه، الأمر الذى أدخل البشرية كلها فى سباق نمو غير مسئول، ينتج مجموعة من السياسات البغيضة التى لا بد من التخلص منها:
●التسلح والحرب، وما يغذيهما من مناخ العداء القومى والعرقى والثقافى: فما فائدة طرد شعب من أرضه، أو اضطهاد أقلية أو ثقافة، إذا كان خطر الفناء يحيق بالمنتصر والمهزوم على السواء.
● تقييد حرية تدفق وتبادل المعلومات والمعرفة، إما بدعاوى الأمن الاقتصادى حماية لتفوق تقنى ضرورى لسباق النمو المهلك، أو بدعاوى ضرورات الأمن القومى؛ وهى القيود التى تستهدف فى الحقيقة الحد من ذيوع المعرفة ومقاومة التغيير السياسى السلمى، ولكن أشد آثارها خطورة هو تضليل البشرية عن الخطر الحقيقى الذى يهددها.
● توجيه وتمويل الأبحاث العلمية والأنشطة الفكرية والثقافية والتقنية سواء بالمنح أو المنع لتحفيز الاستهلاك المفرط والسلوك الترفى ونزعات الكراهية والعدوان؛ مما يؤدى إلى تشتيت الموارد، وزيادة المخاطر، وأهم من ذلك افتعال مبرر بقاء النظم البالية التى تعوق مهمة الإنسانية الأولى فى الحفاظ على نفسها وعلى الحياة كلها.
أكرر: ما معنى حقوق الإنسان إذا بادت الحياة كلها؟ إذا غفلت الإنسانية أو تغافلت عن التهديد بالفناء، الناتج من الجشع، والذى يغذيه قصر النظر، والنعرات وأوهام التفوق القومى أو العرقى أو الثقافى.
شهد العالم فى السنوات العشرين الأخيرة مبادراتٍ وجهودا دولية كبيرة حاولت أن تواجه الأخطار البيئية المعروفة، لا نستطيع أن نقول إنها نجحت. وفشلها هذا يؤكد لنا أن السياق السياسى والقانونى والتنظيمى والأخلاقى الذى تتم فيه هذه المبادرات لم يعد مناسبا لمواجهة التحديات الحقيقية التى تهددنا جميعا.
أقف أمامكم اليوم ممثلا للأمة المصرية، التى قدمت للعالم أقدم وأهم تجربة فى التنظيم الاجتماعى منذ ما يزيد على خمسة آلاف سنة، وها هى تجدد عهدها مع الإنسانية، اليوم، وقد وصلت مسيرة الوعى الإنسانى إلى نقطة فاصلة بين الماضى والمستقبل: فإلى جانب امتلاك الإنسان أدوات المعرفة والعلم التى تكفل له أن يعرف ذاته والظواهر المحيطة به، فقد أصبحنا اليوم نمتلك من آليات ذيوع المعرفة وانتشارها الفورى ما يمكننا من تكوين إدراك جمعى، وتشكيل إرادة الفعل الجمعى: الفعل العابر للمجتمعات والثقافات، والإرادة التى تمكّن الإنسانية من تحمل مسئوليتها فى الحفاظ على الحياة.
أقف أمامكم اليوم، ممثلا لهذه الأمة المصرية، التى أمسكت بهذه الإرادة الإنسانية الجمعية، فى هذه اللحظة المصيرية للإنسانية، فتقدمت تقود الشعوب الثائرة التى أشارت نحو المستقبل ونهجه: فاحتلت ميادين «التحرير»، وتداعت إلى احتلال «وول ستريت» وأمثاله من رموز الظلم الاجتماعى والاقتصادى، منتهجة طريق التغيير السلمى، فهزمت القهر والعنف، أو هى فى سبيلها إلى ذلك.
إن الشعوب، بمطالبتها بالحرية والكرامة الإنسانية أعلنت رغبتها فى العيش معا وبلا تفرقة فى إطار العدالة الاجتماعية، إذ لا حرية ولا كرامة تحت قيود الاستغلال والظلم الاجتماعى.
هكذا تفتَّح إدراك الإنسانية للحظة المصيرية، وتحملت الشعوب مسئوليتها؛ فقامت رافضة وصاية النظم المتحجرة والمصالح الضيقة، وتخطت حواجز التفرقة المصطنعة.
وهكذا، تأسيسا لهذا النضال الشعبى العابر للمجتمعات والثقافات، وترسيخا لهذه المسئولية الكونية، أتقدم إليكم اليوم باقتراح إقرار «الإعلان العالمى لحقوق الحياة»، إطارا أخلاقيا وقانونيا لحقوق الإنسان. بذلك تتوجه الأنشطة الإنسانية الساعية للتقدم والارتقاء تتوجه نحو الحفاظ على الحياة، باعتبار الإنسان جزءا من ظاهرتها، وليس منفصلا عنها، وإن كان متسيدا عليها، فيتحتم أن يمارس هذه السيادة من منطلق الرعاية والمحافظة، وليس من منطلق الانتهاك والاستنزاف. كما يتوجه الوعى الإنسانى للبحث عن التنظيم الاجتماعى اللازم والملائم لتوحيد جهود الإنسانية ومواردها فى مواجهة الأخطار التى تحدق بظاهرة الحياة نفسها.
إن العلم وإدراك الإنسانية المتسارع يشيران إلى مجموعة من المبادئ، يتوجب طرحها لحوار شامل:
أولا: أن الحق فى الحياة حق مقدس لكل الكائنات الحية فى بيئتها الطبيعية.
ثانيا : أن النشاطات الإنسانية يجب ألا تكون أبدا فى تناقض مع الحياة بل يجب أن يرشّدها دائما مبدأ التوافق معها.
ثالثا: أن حشد عمل الإنسانية ومواردها للدفاع عن ظاهرة الحياة هو مسئولية أخلاقية وقانونية يقوم على أساسها التنظيم الاجتماعى للإنسانية.
رابعا: أن حريات الإنسان وحقوقه فى إطار الحفاظ على ظاهرة الحياة على كوكب الأرض تتحقق فى نظام العدالة الاجتماعية المستند على مبدأ حق الحياة الكريمة لكل إنسان، وعلى وحدة الحياة.
إن الحوار الإنسانى الواسع حول اقتراح «الإعلان العالمى لحقوق الحياة» أصبح خطوة ضرورية، وملحة، تطرحها مصر «الثورة» على الإنسانية كلها. وهيئة الأممالمتحدة، فى جمعيتها العامة، هى المنبر الذى تبدأ منه هذه الدعوة، ولا تقتصر عليه؛ فمستقبل الحياة يستحق العمل الجاد والموحَّد من البشرية كلها، على جميع المستويات، وفى جميع المحافل.
مصر تدعوكم: لنتفق على العمل ووسائل تنظيمه، لننتج شكلا من الاجتماع الإنسانى يهدف لإقامة تنظيم إجتماعى أرقى للإنسانية، لتتمكن من حشد عملها وجهودها ومواردها فى إطار العدالة الاجتماعية، والحرية والكرامة والمساواة، فيحل التعاون محل المنافسة، ووحدة العمل محل الصراع والفرقة حفاظا على الحياة.