ربما نكون فى بداية الصراع وليس فى خاتمته، فرغم رحيل الرئيس حسنى مبارك والقبض على بعض المتهمين بالفساد فإن بنية الدولة لم تتغير بعد، وبالتالى مازال الشعار الأساس الذى رفعته الانتفاضة، أى شعار الشعب يريد اسقاط النظام، دون تحقيق ربما يكون هناك من اعتبر أن اسقاط النظام يعنى رحيل الرئيس، وربما يكون هناك من يعتقد بأن «ثورة الشباب» تهدف إلى تغيير النظام السياسى فقط فى سياق السعى لبناء دولة مدنية. وهناك من يعتقد أن كل هذا السيل البشرى الذى انتفض فى كل أرجاء مصر توحد تحت هدف إقامة النظام الديمقراطى، وبالتالى أصبح يعتقد بضرورة قطف ثمار الثورة بالتركيز على بناء دولة مدنية. هذا الوضع يدفع إلى القول بضرورة وقف كل أشكال الاحتجاج التى توسعت فى الأيام الأخيرة للانتفاضة، واستمرت إلى الآن. ومن ثم الدخول فى اللعبة التى تجرى تحت شعار تعديل الدستور القديم، وانتخاب مجلس شعب فى أقرب فرصة خشية تحكم الجيش بالسلطة، وهو الوضع الذى يقود إلى تغيير محدود وينشئ وضعا هشا، لأن أى تغيير فى البنية ذاتها لن يفضى سوى إلى ترقيع لدستور سيئ، يكرس السلطة المطلقة لمنصب الرئيس. وأى تسرّع فى الانتخاب سوف يأتى بقوى «معروفة» من السياسيين الذين هم فى صلب بنية السلطة، وآخرين من النخب ذات الميول الليبرالية، والتى هى ليست بعيدة عن منطق السلطة القديمة، والإخوان المسلمين الذين هم الحزب المنظم الوحيد، فى توليفة لن يكون فى مصلحتها القطع مع البنية القديمة، وتأسيس دولة مدنية حقة ويكون كل زخم الانتفاضة، من ثم، قد حقق ما هو أضعف من طموحات الشعب الذى يريد اسقاط النظام. وتكون السلطة قد أعادت بناء ذاتها فى صيغة جديدة دون تغيير جوهرى، هو ضرورة لتحقيق أهداف الانتفاضة. فالشعب يريد اسقاط النظام الاقتصادى والاجتماعى والسياسى لتأسيس دولة جديدة تخدم مصالح طبقات أخرى غير تلك التى حكمت طيلة عقود أربعة، هى الطبقات الشعبية التى تبحث عن العمل وعن أجور تسمح بعيش كريم، وضمان صحى واجتماعى وتعليم مجانى وسكن صحى، وأرض، وبنية تحتية تتوافق مع العصر وإذا كانت الدولة المدنية ضرورة فإن نجاحها مرتبط بتغيير النمط الاقتصادى السائد، والقائم على تضخم القطاع التجارى (المعتمد على الاستيراد) السياحى والمالى، وبالتالى القائم على دمار قوى الإنتاج فى الزراعة والصناعة، والذى خضع لعملية نهب شاملة من خلال «شراء» كل ما بناه الشعب طيلة عقود طويلة بسعر بخس فى عملية تحصيل «التراكم الأولى» الذى جرى تهريب معظمه إلى البنوك الإمبريالية. ولهذا فإن الأمر لا يتوقف على تعديل جزئى فى الدستور أو تنقية القوانين التى تتعلق بمباشرة الممارسة السياسية. فهذه كلها لا تؤسس لدولة مدنية أو يحل أزمة الطبقات الشعبية لقد انتقلت الانتفاضة فى الأيام الأخيرة لمبارك نقلة كبيرة حينما تحوّلت إلى حركة إضراب فى المصانع والمؤسسات والبنوك ومن أجل العمل والسكن، وربما كانت هذه النقلة هى التى سرّعت من الضغط من أجل رحيل الرئيس السابق كى لا تتوسع وتمتد إلى الريف وبالتالى يصبح من الصعوبة الالتفاف عليها. لكن عملية الالتفاف التى تجرى تعتمد خطابا «كاذبا» من خلال تخطى استمرار الإضرابات وكل أشكال الاحتجاج التى تطرح مطالب مختلف قطاعات المجتمع والتركيز على «أولوية» بناء النظام الديمقراطى، والتخويف من ردود فعل المجلس العسكرى عليها، وبالتالى التخويف من عملية التحوّل الديمقراطى. ربما هنا يظهر نزق بعض الفئات الوسطى ولعب القوى التى لا تختلف جديا عن بنية النظام القائم، لكنها تسعى لأن تقطف هى ثمار النهب بدل تلك التى كانت تحكم. فهى تحت شعار الديمقراطية تسقط كل مطالب الشعب، وتظن بأن المفقرين والعاطلين عن العمل قادرون على الانتظار لسنوات أخرى، أما هى فلا تستطيع الانتظار، وتسارع إلى قطف ثمار الانتفاضة من خلال التحضير للقفز إلى السلطة ما يوصل إلى تأسيس دولة مدنية، ويفتح على تغيير النمط الاقتصادى السائد الذى ولّد كل هذه المشكلات التى أوصلت الطبقات الشعبية إلى حد الإملاق، والعجز عن العيش، هو استمرار كل أشكال الاحتجاج، وطرح كل المطالب، حيث يجب أن تتوضح أزمة المجتمع الحقيقية، ويجب أن يكون واضحا بأن عدم المقدرة على العيش كان فى أساس كل هذا الحراك الهائل، ولم تكن دعوة الفيس بوك سوى اللحظة التى أخرجت كل الغضب المختزن لعقود، ووحدت كل أشكال الاحتجاج الجزئى التى شهدتها مصر خلال السنوات الخمس الماضية. وأن تأسيس الدولة المدنية يأتى فى سياق بناء اقتصاد منتج، وتحقيق التوازن بين الأجور والأسعار، وكل ما يسمح بعيش كريم الإضرابات سوف تستمر لا شك فى ذلك، وربما لن تتوقف قبل تحقيق حد معقول من المقدرة على العيش لا يبدو أن المتحكمين فى السلطة قادرون على تحقيقه. وهو الأمر الذى يقود إلى تنظيم أشكال دفاع العمال والفلاحين والفئات الوسطى، من خلال النقابات واللجان والاتحادات التى باتت ضرورة لتوحيد كل المفقرين فى عمل منظم، فهذا وحده ما يقود إلى تحقيق الأهداف المطروحة