كنت دائما أتساءل، فيما يتعلق بالعقيد معمر القذافى: كيف يستطيع رجل تبدو علاقته بالواقع هامشية البقاء فى الحكم 42 عاما؟ وهو يلقى خطبا مشتتة غير متماسكة فى أماكن مثل الأممالمتحدة. وتزخر رأسه بنظريات مؤامرة شاذة، وهواجس غريبة مثل الدعوة للقضاء على سويسرا وتحميل المخابرات الإسرائيلية مسئولية اغتيال جون كينيدى. كما أنه يظهر فى البلدان الأجنبية بملابس عجيبة، ويفضل ماكياجا غريبا ومثبتا للشعر، وذات مرة علق صورة على صدره. كما أن حرسه الشخصى مكون من الإناث بالكامل. وفى 2008 أعلن أنه كجزء من عملية إصلاح حكومى، سوف يلغى جميع الوزارات باستثناء الدفاع والأمن الداخلى وبضع وزارات أخرى. وهذه ليست تصرفات ميكيافيللى ثابت يجيد الحسابات. غير أن القذافى لا يمكن تفسير شخصيته بمجرد كونه كوميديا ساذجا. فقد ظل مسيطرا على جزء صعب من العالم، وربما يصمد أمام المحاولات المستميتة الحالية لعزله. ويبدو أن هناك شيئا مواتيا فى جنون العظمة الذى اتسم به طوال حياته. فقد طرد من المدرسة بسبب محاولته تنظيم إضراب طلابى. وبدأ يخطط لانقلاب من أجل الاستيلاء على السلطة بينما كان فى الكلية. وكثيرا ما يقارن نفسه بالمسيح وبالنبى محمد. كما أطلق على كتاب تعاليمه «الكتاب الأخضر» وصف «الإنجيل الجديد». الكتاب الذى يجبر الليبيين على قراءته (حيث ألغى فى وقت ما الإجازة المدرسية الصيفية وأحل محلها جلسات لتلقين الطلاب هذا الكتاب) يحفل بأفكار غريبة الأطوار، وتأكيدات مبتذلة. وهو يتكون من ثلاثة أجزاء، «حل مشكلات الديمقراطية»، و«حل المشكلات الاقتصادية» فضلا عن قسم يطرح حلولا للمشكلات الاجتماعية. ويبدو أن القذافى كتب الكتاب مقتنعا أنه اكتشف الحلول لجميع المشكلات الإنسانية، فيما أطلق عليه النظرية العالمية الثالثة. وكتب فى فقرة يقينية على نحو مميز «ليس للديمقراطية الحقيقية سوى نهج واحد ونظرية واحدة». ويطرح دائما ملاحظات تافهة كما لو أن أحدا لم يفكر فيها من قبل. فهو يكشف أن المرأة تحيض بينما الرجل لا يحيض. ويميط اللثام عن مبادئ لا علاقة لها بما يقوم به فعليا: «التعليم الإلزامى تعليم قهرى، يقمع الحرية. وفرض مواد تعليمية معينة عمل ديكتاتورى». ويبدو أنه من أولئك الذى يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، ويرغب فى فرض أفكاره على الجميع، ويمارس هيمنة كاملة على الآخرين كما لو كان رجلا خارقا فى تاريخ العالم. وبهذه الكيفية، كان يحكم بلاده. ووفقا لمؤشر حرية الصحافة، تعتبر ليبيا البلد الأكثر رقابة فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما لذلك من دلالة. ويقدر خبراء عدد المخبرين فى البلاد بنحو عشرة أو عشرين فى المائة من عدد السكان. ذات مرة، ألغى القذافى اللغات الأجنبية من المدارس وأزال علامات الشوارع المكتوبة بحروف لاتينية، بهدف القضاء على النفوذ الخارجى. وقبل ذلك، طرد الجالية الإيطالية، وأجبر أعضاءها على إخراج جثث الإيطاليين من المقابر الليبية لاصطحابها إلى إيطاليا. وأذاع عملية إخراج الجثث عبر البث الحى على التليفزيون الليبى. وتنتشر فى شوارع ليبيا ملصقات تقول أشياء من قبيل «أطيعوا أولى الأمر». وحاول القذافى عبر العقود إعادة تشكيل العالم وفق تصوره الشاذ. وسعى لإنشاء إمبراطورية كبيرة عبر دمج ليبيا والسودان. كما حاول إقامة اتحاد الجمهوريات العربية مع مصر وسوريا. وحاول إنشاء جيش عربى. وأطلق على نفسه لقب ملك الملوك، وإمام المسلمين كافة، وفى 2009 سعى إلى إقامة الولاياتالمتحدة الأفريقية. وأنشأ أكاديميات ديكتاتورية، ودرب مجموعة من أكثر مستبدى العالم وحشية، كما ساند بالطبع حركات إرهابية فى أستراليا وأيرلندا وألمانيا وغيرها. ولكن يبدو أن هذه الحالة الحادة من جنون العظمة كانت السر فى طول بقائه فى الحكم وطبيعته المشوشة. ومن المفارقة، أنه إذا كنت ترغب فى البقاء فى المنصب كديكتاتور، فمن الأفضل أن تكون ديكتاتورا نرجسيا بدلا من أن تكون مستبدا تافها. ويسعى المصابون بجنون العظمة من أمثال القذافى إلى السيطرة على كل خلية عصبية فى رءوس شعوبهم، والتحكم فى جميع مناحى الحياة. وهم يدمرون كل سلطة أو مجتمع مدنى خارج سيطرتهم. ويشخصنون جميع المؤسسات حتى إن مؤسسات مثل الجيش توجد لخدمة ذواتهم المقدسة، بدلا من الأمة ككل. ولا تراودهم الشكوك أو القلق بشأن صحة آراء الآخرين، على اعتبار أنهم يملكون الحقيقة المطلقة. وهم مدفوعون بالرغبة فى تبليغ رسالتهم العالمية، وليس لديهم أى اهتمام بالتقاعد بصورة سلمية. وقبل سنوات، كان جين كيركباتريك محقا عندما ميز بين الديكتاتوريات الاستبدادية والشمولية. فالأنظمة الشمولية أكثر سقما وأصعب فى التخلص منها. وتبدو غرابة أطوار القذافى المشوش والنرجسى مفتاح طول بقائه. لذلك عليك أن تتذكر: إذا كنت ستصبح طاغية، فلتكن مخبولا. فهذا أكثر أمانا.