نعم.. قد يكون التفوق الكاسح للإسلاميين فى أول انتخابات ديموقراطية تشهدها مصر مثيرا للقلق، ولكن ليس للأسباب التى يروجها الكثيرون. فعلى الرغم من أن مؤهلاتهم للعمل فى إطار من الديموقراطية الحقيقية وقدرتهم على حسن إدارة اقتصاد دولة لم تُوضع محل اختبار لأسباب واضحة، فإن الأداء القوى لحزب «الحرية والعدالة» التابع للإخوان المسلمين كان أمرا متوقعا، كما أن الحزب قام بعرض سياسة اقتصادية تبدو متناسقة وواقعية.
ولعل أبرز المفاجآت التى جاءت بها الانتخابات البرلمانية الأخيرة، هو تفضيل عدد كبير من المصريين منح أصواتهم لمرشحى الدعوة السلفية الأكثر تشددا، وهم فصيل يغلب على خطابهم حتى الآن موعظة الدخول إلى الجنة (وهو أمر مهم ولكنه شخصى) أكثر من كيفية تحسين الحياة الدنيا (وهو أمر ملحٌّ ولكنه مجتمعى بالطبيعة).
ولذلك فإن هدفنا يجب أن يكون إحياء أمل المواطن المصرى فى عيش حياة أفضل الآن.
وهذا الهدف لا تقوى على تحقيقه حكومة جديدة من أى فصيل سياسى بمفردها. ويضاعف من المشكلة وجود حالة من عدم الثقة فى القطاع الخاص بعد ممارسات سلبية لشريحة من مجتمع المال والأعمال الذى فقد بعضا من مصداقيته بسبب رأسمالية المحسوبية المنحازة إلى القلة. لذا أصبح من واجب مجتمع المال والأعمال ككل أن يساهم فى إنشاء عقد اجتماعى جديد عماده الرعاية الصحية والتعليم وخلق فرص عمل حقيقية لشبابنا. فإن نجاح خطانا نحو تحقيق نظام ديموقراطى مرهون بنجاحنا فى إعداد شبابنا على الوجه الأمثل لسد احتياجات سوق العمل وكسب أجر مناسب يضمن لهم حياة كريمة، كما هو مرهون أيضا بمقدار رعايتنا للمريض والمحتاج وبحمايتنا للأقليات فى مجتمعنا.
التحديات التى تواجهنا الآن متعددة..
من أبرز التحديات الاقتصادية التى نشهدها الآن: انخفاض معدل الاستثمار، وتدهور قطاع السياحة بشكل غير مسبوق، وتراجع احتياط النقد الأجنبى وارتفاع نسبة التضخم، وديون يصعب تغطيتها وعجز فى الموازنة قد يتجاوز 13% قريبا.
ولا يسعنا القول إلا أن الثورة لم تنجح حتى الآن فى تحسين الظروف المعيشية لغالبية شعب مصر. فمعدلات البطالة حسب التقارير الرسمية أعلى مما كانت عليه قبل الثورة، وتجاوزت نسبتها بين الشباب 25%، وذلك فى حين تشكو الشركات بمختلف المجالات والأحجام من عدم وجود الكوادر المتميزة التى تحظى بالمهارات اللازمة لمواكبة تطور متطلبات السوق.
ونحن على ثقة كاملة فى أن حلول مشكلاتنا الداخلية لن تأتى من الخارج. فمصر يتعين عليها التحرك الفعَّال بحزمة من الإجراءات فى العديد من القضايا وأولها قضية الدعم.
وبنظرة موضوعية لموارد مصر الرئيسية من بترول وغاز طبيعى ومياه وكهرباء وغيرها من أنشطة التعدين وإيرادات الحركة الملاحية فى قناة السويس، يتضح بما لا يدع مجالا للشك أن كل هذه الأصول تعانى من ضعف فى الأداء سببه الرئيسى نظام الدعم القائم، وهو نظام غير فعال بالمرة، ويستمد عدم فاعليته من استفادة جميع الموجودين فى مصر دون استثناء من مزاياه دون التفرقة بين الغنى والفقير. فكلما زاد الاستهلاك زادت الاستفادة من برنامج الدعم، حيث يستفيد الأغنياء والشركات بنسبة أكبر، مما يجعل من الدعم واحد من أبرز أسباب غياب العدالة فى مصر خاصة فى السبع سنوات السابقة.
ولذلك نرى أن تفعيل برامج الإصلاح لتحقيق توظيف أمثل لموارد الدولة، والتخلص التدريجى من دعم الطاقة (مواد بترولية وكهرباء) فى غضون خمس سنوات، بإمكانه توفير ما يصل إلى 50 مليار دولار (وهذا ليس خطأ مطبعيا) يمكن توجيهها لصالح تحسين قطاع الرعاية الصحة وتطوير النظم التعليمية وخلق فرص عمل جديدة، بالتوازى مع خفض عجز الموازنة العامة للدولة.
إن معدل استهلاك مصر من أنابيب البوتاجاز حاليا يبلغ 380 مليون أنبوبة سنويا، فى حين تقدر الاحتياجات الحقيقية بقرابة 200 مليون أنبوبة فقط لسد احتياج 15 مليون مواطن تقريبا، مما يؤدى إلى توفير 2.2 مليار دولار فى هذا القطاع. كما أن السماح باستيراد الغاز الطبيعى (أو تقليل صادرات الغاز وزيادة أسعارها إذا أمكن)، ستؤدى إلى تعزيز كفاءة قطاع توليد الطاقة المحلى عن طريق رفع نسبة استخدام الغاز وخفض نسبة استخدام المازوت مما يسمح بتوفير 2 مليار دولار من أعباء الموازنة العامة. هذا بالإضافة إلى توصيل الغاز للمنازل الذى يستطيع أن يوفر مليار دولار إضافية. والحقيقة هى أن قطاع البترول تحمَّل أعباء الدعم بمفرده وهو ظلم فادح له.
من جانب آخر، فإن مصر تستورد نحو 35% من احتياجاتها من وقود الديزل، ثم تقوم بدعمه، بيد أن الدولة بإمكانها توفير المليارات وتحقيق أثر بيئى إيجابى إذا عملت على زيادة الطاقة الإنتاجية لمعامل ومشروعات التكرير المحلية، وقامت بتشجيع أنشطة النقل النهرى والنقل بالسكك الحديد على حساب النقل البرى بالشاحنات، بالتوازى مع رفع الدعم تدريجيا عن وقود الديزل فى غضون عشر سنوات، وعن باقى منتجات البترول فى غضون خمس سنوات، وعن المازوت فى غضون ثلاث سنوات.
ويمكن لسياسى جرىء إلغاء الدعم عن الطاقة فورا. وإذا تحقق ذلك إلى جانب ترشيد استخدام موارد الدولة (دعم الطاقة واستخدام أمثل لبعض أصول الدولة دون المساس بدعم السلع الغذائية والمياه فى الوقت الحالى)، يمكن توفير 58 مليار دولار سنويا، يوزع منها نحو 20 مليار دولار فى شكل دعم نقدى مباشر (وبعضه مشروط) لمستحقيه الحقيقيين، وتنفق ال38 مليار دولار المتبقية على تطوير قطاعات الصحة والتعليم وخلق فرص عمل جديدة وتقليل عجز الموازنة العامة للدولة (التى تمثل مشكلة كبيرة ومتفاقمة حاليا ويجب حلها فورا). وهو ليس بالاقتراح الغريب، حيث نجحت برامج مماثلة فى دول عديدة منها البرازيل والمكسيك وإيران.
وجميع هذه الاقتراحات هى حلول فى متناول اليد ويمكن تحقيقها ولكنها تتطلب قرارات وتحركات حاسمة من مشرعين على استعداد لمنح الثقة لمجتمع المال والأعمال. ويبقى هذا الأمر محل تساؤل حتى الآن.
وقد كان أملنا كبيرا فى الثورة التى تعتبر حدثا تاريخيا سعيدا لا يتكرر إلا مرة واحدة فى العمر ولكن للأسف فقدنا ما لا يقل عن عشرة أشهر فى تباطؤ لعجلة النمو والإنتاج حتى توقف الاستثمار.
وإذا لم يعالج الأمر بسرعة، فإنى أتوقَّع أن تشهد الشهور القادمة ارتفاع التضخم وارتفاع الدعم والحاجة المتزايدة إلى خلق فرص عمل جديدة. ونرى كذلك أن الرغبة فى معاقبة مجتمع الأعمال إلى جانب زيادة النزعة القومية سيؤدى إلى خلق حواجز تجارية وفرض المزيد من الضرائب والقيود التنظيمية وهى أمور تؤثر على الاستثمار أغلبها خطأ وبعضها جائز. فى تخيلنا أن رد فعل العديد من أصحاب الأعمال والشركات سيكون مقاومة هذه التوجهات وستعلو الأصوات الشاكية خلف الأبواب المغلقة.
وختاما نؤكد أن إحياء الأمل من جديد لأكثر من 85 مليون مواطن مصرى يتطلب من مجتمع المال والأعمال أن يتبنى عقدا اجتماعيا جديدا ويعمل على إرسائه بقوة، وعلى رجال السياسة المنتخبين أن يرحبوا بالمشاركة فى مثل هذا التوجه.