مع دقات الساعة الثالثة صباحا، ينتفض أمين بائع قطع غيار المحمول من سباته كى يلحق بالمصلين فى الساحة المخصصة للصلاة أسفل منصة أبوإسماعيل، إيمانا منه بأن فى هذه الفترة من الليل يكون الدعاء مستجابا. وأمين مثل غيره من أبناء أبو اسماعيل، المعتصمين فى ميدان التحرير، هو جزء من خليط من الأتباع الذين أتوا من جميع المحافظات لأداء صلاة قيام الليل معا عسى أن ينصر الله شيخهم فى معركة الرئاسة.
ومنذ وصوله للتحرير، يمارس أمين طقوسا ونظاما يستمر معه طوال اليوم، فهو يهرع إلى الميدان كى يصلى المغرب بعد انتهاء عمله ثم يتناول غداءه أو يكسر صيامه، على حد قوله، ويستريح قليلا ما بين المغرب والعشاء قبل أن يستأنف عباداته.
فى ميدان التحرير تتشابه أجواء الاعتصام الذى يدخل أسبوعه الثانى وأجواء الاعتكاف، بالرغم من تحفظ أنصار أبو إسماعيل على أوجه التشابه، لأنهم يعتبرون أن المسجد هو المكان الأمثل للاعتكاف.
تنتشر الخيام الصغيرة على شكل قباب.. هنا يجلس محمود، المدرس الأربعينى، يتلو الأذكار والأوراد، ويقول: «منذ عشرة أيام، أحضر يوميا من السنطة بمحافظة الغربية بعد انتهاء مواعيد عملى للاعتصم هنا. وعلى الرغم من بعد المسافة، لا يضيع الوقت هباء فنحن دائما فى حالة تعبد وصلاة. أسست كذلك مكتبة صغيرة متنقلة لتبادل الكتب مع الزملاء من المعتصمين سواء داخل الخيمة التى اعتدت الإقامة بها أو من خارجها».
أصوات مكبرات الصوت الداعية للثبات والصبر تملأ أرجاء المكان، بل توظف السور القرآنية التى تتلى أثناء الصلاة لخدمة هذا الغرض، فليس من المستغرب مثلا أن يختار الإمام سورة «النصر» ليبدأ بها صلاة المغرب.
ثمة حالة خاصة جدا من التحفز والاستنفار، أعلام سوداء مدون عليها الشهادتان ترتفع فى الأفق إلى ما لا نهاية، «الشريعة كلها رحمة»، «ماذا وجدتم من شريعة الله حتى لا تطبقوها»، مثل هذه العبارات تكسو خلفية القباب المنتفضة.
من خيمة محمود إلى خيمة المحاسب الشاب أحمد زكى لا يختلف المشهد كثيرا، إذ يقف مجموعة من الشباب فى صمت مهيب، كأن الطير على رءوسهم، وهم ملتفون حول أحد المشايخ فى حلقة درس يقدم خلالها تفسيرا لآيات بعينها من سورة «آل عمران». يوضح أحمد زكى: «أدعو شبابا من خارج التيار السلفى كى يستمعوا لما نقول، ربما يقتنعون بما ننادى به من أفكار». يقضى هذا الأخير الجزء الأكبر من وقته خلف المتاريس المعدنية، حيث يتبادل الحديث مع المارة فى محاولة لاستقطاب مؤيدين.
وعلى الرغم من الخلاف الفكرى ما بين الحركتين الصوفية والسلفية، إلا أن المشهد فى الميدان يقترب كثيرا من المظاهر الاحتفالية الخاصة بالموالد: مجموعة من باعة الأطعمة والتسالى والمشروبات جعلوا المكان أشبه بالسوق، ونجحوا فى التوصل لصيغة تعايش مع مجريات الأحداث. أحيانا تتشابه ملامح هؤلاء الباعة طليقى الذقون مع المعتصمين، بل يحضرون معهم بعض دروس الدين، كما يؤدون معهم الصلوات أحيانا.
سيد، بائع السندوتشات، قرر تقديم خصم للمعتصمين، فهو يبيع ساندويتش الكبدة بثلاثة جنيهات بدلا من سبعة لأنه يريد مناصرة المطالبين بتطبيق الشريعة، مقتنعا بأن هذا «درب من دروب الجهاد».
وفى تلك الأجواء التى تقترب من أجواء «المناسك» يظل الاختلاط ممنوعا، فهناك خيمة كبيرة مخصصة فى الركن الأيمن من الاعتصام للنساء اللاتى جئن لمناصرة الشيخ أو لرؤية أزواجهن وأبنائهن، فقد قرر البعض عدم العودة للبيت «حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا»، على حد تعبير عائشة التى لم يعد زوجها للمنزل منذ أسبوع، تماما كما يعتكف خلال الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان.