تشير الأرقام الأخيرة الصادرة عن الإدارة العامة للدفاع الاجتماعى عام 2007 إلى وجود 3 ملايين طفل شارع فى مصر، بينما كان العدد لا يتجاوز المليونين عام 1999 وفقا لبيانات الهيئة العامة لحماية الطفل، إلا أن كل هذه الإحصاءات تثير لغطًا نظرا لعدم دقتها. تعلق الدكتورة عبلة البدرى الأمين العام لجمعية الأمل، وهى من أوائل الجمعيات التى فتحت هذا الملف سنة 1988 وظلت تعمل بمفردها تقريبا حتى 1997 على ضوء خبرات دول أمريكا للاتينية وعلى رأسها البرازيل: «الأرقام الخاصة بأطفال الشوارع غير معبرة تماما عن الواقع، فهناك جيل ثانى من الأطفال ولد بالشارع ويعيش فى كنف والديه دون أن يكون لديه أوراق ثبوتية. ومن خلال عملنا الميدانى وجدنا أن بنات الشوارع مصدر رئيسى لتفريخ الأطفال اللقطاء، فبعضهن يلد كل عام ويعيش أطفالهن فى مجتمع الشارع بعيدا عن الدولة، نحن عادة ما نطلق على هذا الطفل الجديد، «مستر نوبودى» أو «لا أحد»، لأنه مواطن مجهول بالنسبة للدولة وللجهات العاملة فى مجال أطفال الشوارع». تستطرد عبلة البدرى التى تعمل على هذا الملف منذ 23 عاما، قائلة: «ما يمكن أن يعبر أكثر عن التحرك العددى داخل هذا المجتمع هو المؤشرات التى تتيحها الجمعيات الناشطة على أرض الواقع، فعندما بدأنا كنا نقدم خدمة لحوالى 400 طفل سنويا، بينما قفز هذا العدد إلى 2000 مع بداية الألفية الثانية ثم إلى ثمانية آلاف فى عام 2008 وحتى قبيل الثورة». تتضارب الأرقام بهذا الصدد، إلا أن جميع المؤشرات تفيد بأن العدد فى زيادة مطردة وأن متوسط الأعمار فى نقصان، إذ أفادت دراسات مختلفة أن متوسط عمر الطفل فى مطلع الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات كان يتراوح بين 13و 15، بينما يتراوح متوسط عمر طفل الشارع اليوم بين 7 و9 سنوات.
المشكلة الاقتصادية أضفت شرعية لوجود طفل الشارع عقب تبنى مصر لسياسات الصندوق الدولى، وما نجم عن ذلك من تزايد وطأة الفقر والبطالة، لكن البعد الاجتماعى قد غلب على المشكلة مع مطلع الألفية الثانية، إذ أثبتت دراسة أجرتها قرية الأمل عام 2007 أن 58 فى المائة من أطفال العينة محل الدراسة، نزحوا للشارع بسبب الطلاق أو موت أحد الآباء إلى ما غير ذلك.
«لدينا طفل يعمل والده مأمورا لقسم بالقاهرة وقد كان الطفل يعيش مع أسرته ويتعلم بمدرسة لغات، لكن انقلبت حياته رأسا على عقب بعد وفاة أمه وطرد زوجة أبيه له»، تضرب هذا المثال سهام إبراهيم، مديرة جمعية «طفولتى» التى أسستها عام 2000 مع عبلة البدرى، وتضيف: «طبقا لأرقام محكمة الأسرة، فإن مصر قد شهدت منذ عام 2005 وحتى اليوم أعلى نسب لقضايا الطلاق على مدار تاريخها». وضمن البعد الاجتماعى يندرج أيضا المتغير التعليمى بحسب عبلة البدرى التى لاحظت من خلال مسح أجرته الجمعية حول أطفال الشوارع أن نسبة من يجيدون القراءة والكتابة بينهم زادت لتصل إلى 30 % فى مقابل 5 % قبل الثورة، ما يعنى أن الظروف الاقتصادية دفعت بالكثيرين إلى الشارع بعد أن كانوا منخرطين فى سلك التعليم.
وبالتالى أثر هذا الخليط من المعطيات الاجتماعية والاقتصادية على تركيبة مجتمع الشارع الذى تصفه الدكتورة سامية محمد أستاذ علم الاجتماع التربوى بأنه مجتمع شديد التنظيم وبعيد تماما عن الفوضوية، «فكلما رسخت أقدام الأطفال فى الشارع زادت القدرة التنظيمية وتضاعفت صيغ التعايش»، فعندما أختار مثلا بعض الأطفال أن يتمركزوا فى حى شبرا مع مطلع التسعينيات لم يكن الاختيار عشوائيا، إذ يقع الحى على بعد خطوات من محطة مصر، وحوالى 40 % منهم أتوا إلى القاهرة من محافظات مختلفة، فضلا عن أن فرص الأعمال الهامشية حول المحطة كانت متوافرة.
من ناحية أخرى، كانت حديقة أحمد بدوى تمثل مأوى مناسبا للنوم بالنسبة لأعداد غفيرة منهم، بخلاف وجود مطاعم للوجبات السريعة رخيصة الثمن. لكن الحراك امتد لأماكن التجمع مع نهاية التسعينيات، وبدأت منطقة السيدة زينب فى استقطاب أطفال الشوارع بعد أن انضم لهم بعض أبناء الطبقة الوسطى. تقول سهام إبراهيم من جمعية طفولتى: «عندما شرعت فى تأسيس الجمعية اخترت منطقة حلوان التى بدأت تظهر على خريطة توزيع المناطق الخاصة بتواجد أطفال الشوارع. ففى عام 2000، كانت هذه المنطقة وحدها تضم 35 منطقة عشوائية من إجمالى 72 فى القاهرة، فضلا عن أن 48 % من السكان كانوا أقل من 20 سنة، مما جعلها أرضية خصبة لوجود هذه الفئة المهمشة».
بنات أشبه بالذكور
قادت المصادفة جمعية «الأمل» إلى اكتشاف وجود بنات وسط هذا المجتمع فى نهاية التسعينيات، ما ينم عن تغير صارخ داخل الأسرة المصرية قاومت طويلا قبل أن تلقى «بلحمها فى الطريق»، على حد تعبير عبلة البدرى التى تروى: «اكتشفت إحدى المربيات بالجمعية وجود البنات بالمصادفة، عندما كانت إحداهن تستحم وطلبت منها مناولتها صابونة، قبلها كانت البنات التى تتردد علينا حليقات الرأس وترتدين ملابس فضفاضة، وبالتالى لم نكن نميز بين الجنسين». وتؤكد عبلة البدرى أن اغتصاب المحارم يأتى على رأس الأسباب التى تزج بالبنات إلى الشارع، إذ تشكل نسبتهن حاليا حوالى 30 % من حجم المشكلة.
تلك المتغيرات دفعت بدورها الجهات الناشطة إلى تغيير آليات التعامل مع طفل الشارع، فعدد الجمعيات الناشطة يصل إلى 18 مؤسسة يتوزع دورها بين البحث والإيواء الذى يأخذ أشكالا مختلفة تتراوح بين دور الرعاية المغلقة ونصف الإقامة ودور الضيافة، فبعض الأطفال قد يحتفظون بخيط رفيع من العلاقات مع أسرهم. «قمنا بافتتاح مقر جديد عام 2000 وخصصناه للبنات، ونظرا لأن بعضهن تأتينا بكرا وبعد شهر قد نكتشف أنها حامل فى حين لا يتجاوز عمرها 11 عاما، أقمنا عام 2004 أول دار لضيافة أمهات من بنات الشارع».
المشكلة أخذت تنمو ككرة الثلج وأصبحت تحتاج لتمويل ضخم، فتكلفة برامج معالجة طفل الشارع تصل إلى 10 دولار يوميا، بحسب تصريحات سهام إبراهيم المقتنعة تماما بضرورة وجود شريك أجنبى، خاصة وأن نظرة المجتمع لطفل الشارع ما زالت تتأرجح بين الحيادية والسلبية، فقد يتعاطف بعض الناس مع اليتيم، لكن الكثيرون يعتبرون أن النقود تضيع هباء فى حال الإنفاق على طفل الشارع.
توزيع أدوار
منظمة اليونيسيف الشريك الذى اهتم بالملف منذ البداية تعكف على توصيف الظاهرة من الناحية البحثية، أما مؤسسة «سامو» الاجتماعية فقد كونت شبكة من الوحدات المتنقلة التى تذهب للأطفال فى أماكن تواجدهم، بينما افتتحت منظمة «أطباء العالم» عيادة البسمة بمستشفى أبوالريش وخصصتها لتقديم الخدمات لهذه الشريحة المنسية.
وتقلص دور القطاع الرسمى منذ منتصف الثمانينيات، رغم أن تاريخ اهتمامه بالقضية يرجع لعام 1904 مع تأسيس الإصلاحيات، واكتفى المسئولون بالتمثيل فى المؤتمرات الدولية التى أقرت خلالها زوجة الرئيس المخلوع لأول مرة عام 96 بوجود طفل الشارع بمفهومه الحالى. وتعلق سهام إبراهيم: «وجدت فيلما ليوسف وهبى من أربعينيات القرن الماضى يدور حول حكاية طفل من الشارع، وهذا يدل على أن الاهتمام بالمشكلة كان موجودا قبل الثمانينيات».
من ناحية أخرى تم وضع إستراتيجية قومية لمكافحة الظاهرة واستصدار القوانين التى كان أهمها قانون 126 لعام 2008، بما يتضمنه من مكاسب لطفل الشارع خاصة أنه رفع سن المسئولية القانونية من 7 إلى 14 عاما ونص على أحقية نسب الطفل المولود فى الشارع لأمه حتى لا ينزع منها ويعامل معاملة مجهول النسب.