«فخلف كل قيصر يموت: قيصر جديد، وخلف كل ثائر يموت: أحزان بلا جدوى، ودمعة سدى».. من كلمات سبارتاكوس الأخيرة لأمل دنقل.
***
المشهد التالى يثير الحسد الحميد، ربما يفتح شهية البعض للتعلم والفهم:
كانت حوالى الثامنة مساء، وصوت عزة بلبع يخرج من مكبرات الصوت المرصوصة أمام مقر دار ميريت، بكلمات أحمد فؤاد نجم، وألحان الشيخ إمام:
«مهما كان البحر عاتى، فلاحينك ملاحينك، يزعقوا فى الريح يواتى»..
صاح أحدهم: «عماد أبو غازى أهو»..
راح كل ليستقبل عماد ويعانقونه، فى ظهوره الأول تقريبا بعد موقف مشرف، جاء يروى ظمأ الكثيرين. المؤكد أن استقبال الرجل بهذا الشكل، من قبل الثوار، دشن له مجدا جديدا، وكان طعمه أكثر حلاوة من طعم كرسى الوزارة..
ولكن مهلا، قبل هذا المشهد، كانت هناك أياما، وأحداثا:
1 «خلافا لتوقعات البعض بإلغاء افتتاح الدورة ال43 لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، بسبب الأحداث الراهنة فى الشارع المصرى، أكد بيان صحفى صدر أمس عن مكتب وزير الثقافة فاروق حسنى إن: «الرئيس مبارك سوف يفتتح المعرض صباح غد السبت بمركز المؤتمرات بمدينة نصر، على أن يفتتح للجمهور فى الثانية من ظهر نفس اليوم».
بعد يومين من هذا التصريح السابق، سوف يخرج الرئيس، الذى سوف يُخلع بعد أيام، فى خطاب محاولا تهدئة الشعب بإقالة الحكومة، وتكليف أحمد شفيق بتشكيل واحدة بدلا منها، ولأول مرة عبر أربع حكومات متتالية يشمل التغيير حقيبة الثقافة التى كانت دائمة الاستثناء، ويعرف فاروق حسنى أن «توقعات البعض» بإلغاء المعرض كانت صادقة، وأن تصريحه يوم 27 يناير 2011، سوف يكون الأخير لوزارة الثقافة فى عهده. سوف يكتشف أيضا أن «الأحداث الراهنة» مصطلح لم يعد مناسبا لوصف الوضع، وبات الوصف العفوى للأمور هو مصطلح، «الثورة».
2
لم يجد أغلب مثقفى الوطن العربى عذرا لقبول د.جابر عصفور تولى وزارة الثقافة فى حكومة أحمد شفيق، حتى من اختلفوا معه سياسيا عبر سنوات، لم يتوقعوا رؤيته يحلف اليمين أمام مبارك بعد أيام قليلة من يوم جمعة الغضب وقتل المتظاهرين، ولم يرجع أغلبهم عن هذا الموقف حتى بعد الاستقالة السريعة لعصفور على خلفية صدامه مع أنس الفقى عندما قال له بحدة إن هذه ليست حكومة إنقاذ «وطنى» بل إنها حكومة الحزب «الوطنى».
فطوال وجود عصفور فى قلب المشهد الثقافى السياسى، التمس أغلب المثقفين له العذر فى كل مواقفه السياسية التى اتهم بها، وكان من أبرزها قبوله جائزة القذافى، والتى رد قيمتها المعنوية بعد أعمال العنف فى ليبيا، كان بعضهم، فى زمرة هذه الخلافات الفكرية والسياسية، يقول إنه: «مثقف كبير ومؤثر حتى وإن اختلفنا معه»، ولكن جاء قبوله تولى الوزارة فى ظل الأحداث المذكورة بمثابة القشة التى قسمت ظهر البعير، وهو الأمر الذى سيحدث لاحقا مع كل من أغواهم الكرسى، غير فاهمين أنه أصبح مثل كرسى الإعدام، لأن السلطة الحقيقية باتت لرغبة الميدان.
3
رحل عصفور، وأفتى المستشار يحيى الجمل، نائب رئيس الوزراء وقتها، باسم محمد الصاوى، وأنه يصلح وزيرا للثقافة بعد نجاح مشروعه الخاص «ساقية الصاوى». تناسى الجمل أن أبرز عيوب الحكومة المخلوعة، حكومة نظيف، كان تشكيلها المكون من رجال الأعمال.
لن نتوقف كثيرا عند الصاوى، لأنه لم يأخذ «غلوة» غاضبة من المثقفين الذين رفضوه رفضا غير قابل للمناقشة، لعدة أسباب كان على رأسها معاييره الأخلاقية والدينية التى عرف بها، ورغم محاولاته فى مقاومة هذا الرفض، لم يسمحوا له بالبقاء فى مكتبه أيام معدودات.
4
من قلائل الشخصيات العامة التى جاءت إلى قلب المشهد السياسى وذهبت عنه بشكل مشرف، كان د.عماد أبو غازى، الذى تولى وزارة الثقافة فى حكومة د.عصام شرف، وهى الحكومة الوحيدة التى جاءت من قلب ميدان التحرير، قبل أن تتعثر وتفاجئ الثوار بالكثير من «الهرتلة»، بل إن عماد نفسه، بشكل فردى، جاء إلى حكومة شرف بطلب عام من الجماعة الثقافية.
رغم اختلاف البعض مع الطريقة التى أدار بها الوزارة أثناء توليه، لم يستطع أحدهم العبث بتاريخه، وحتى هذا الاختلاف، تلاشى تماما، بعد الموقف المحترم الذى اتخذه الرجل على خلفية أحداث شارع محمد محمود.
ففى الوقت الذى تتشبث فيه كل حكومة عصام شرف بمنصبها، غير مكترثين برفضهم من قبل الميدان الذى أتى بهم، ولا بالشهداء والمصابين فى محمد محمود، فى هذا الوقت، تأتى استقالة عماد أبو غازى اعتراضا منه على انتهاكات وزارة الداخلية لحرمة التظاهر السلمى.
فعلها أبو غازى مؤمنا بأن الانتهاك لا يحسب فقط على وزارة الداخلية، بل إنه يلوث كل من يعمل تحت إدارة المجلس العسكرى، الذى كشر عن أنيابه، وكشف لنا وجهه الآخر، ورحنا نضرب الكفوف من فرط صدمتنا فيه. فعلها عماد دون علم بأن أحداث محمد محمود كانت بروفة صغيرة لمسرحية دامية سوف تحدث أمام مقر مجلس الوزراء، يأتى فيها جنود الجيش سائرين على أجساد الفتيات بعد تعريتهن وسحلهن والتعامل مع رءوسهن مثلما يتعامل اللاعب مع كرة القدم، مسرحية يدخل فيها رئيس مجلس الوزراء مارا على جثث الثوار، بعد أن تبول عليهم جندى مصرى، وأشار لهم آخر بالإصبع الوسطى.
5
المشهد المثير للحسد الحميد، الذى تحدثنا عنه أول السطور، سوف يحرم منه كل من أغواه كرسى الوزارة / الإعدام، هذا ما أتى فى ذهن ثوار المثقفين:
«لن نقبل بحلول وسط بعد الآن، أيا كان من سيأتى للثقافة فى حكومة الجنزورى، لا مجال للتفاوض مع القتلة».
هذا الرفض الغاضب فى أعقاب أحداث محمد محمود، خفّ قليلا مع اختيار د.شاكر عبدالحميد لتولى وزارة الثقافة، والأسباب أنه صاحب تاريخ غير ملوث، ويحظى باحترام أغلب المثقفين، «ولكن مجرد قبوله المشاركة فى حكومة مرفوضة من الميدان، خصوصا بعد انتهاكات محمد محمود ترفع عنه الشفاعة، ثم إننا رفعنا السيوف فى وجه جابر عصفور لحلفه اليمين أمام مبارك الذى كان وزير داخليته يقتل الثوار، فلماذا نبارك الآن لشاكر عبدالحميد وهو يحلف اليمين أمام طنطاوى فيما ترتكب وزارة داخليته نفس الفعل؟»، يسأل أحدهم فيجد الإجابة على لسان البعض: «المسألة أكبر من مجرد فورة حماس وعواطف، وهذا هو حال السياسة، إذا كان شاكر سيستطيع تحقيق رغبات المثقفين من خلال وجوده فى الحكومة فدعونا نجرب».
لكن الأيام لم تعطهم أو تعطه فرصة المحاولة، وفيما يقوم الرجل ببضع محاولات فى هيكلة الوزارة، تقع فوق رءوسنا صاعقة أحداث مجلس الوزراء، التى لم يكتف فيها المجلس العسكرى فيها بالإشراف على الانتهاك، بل ذهب يمارسه، وراح جنود الجيش يقتلون ويسحلون ويعرون، بل والأصعب، تدنيسهم لقدسية البذلة العسكرية، وتوسيع الفجوة بين الجيش والثوار.
حسم المتذبذبون فى الوسط الثقافى أمرهم: «الذى يعمل بشكل أو بآخر فى حكومة يشرف عليها القتلة، ليس له عندنا أى مبررات».
حتى تصريح الوزير بأننا «لا نقبل الحكم العسكرى أو الدينى»، لم يقنع البعض، فهى عبارة براقة، لكنها لا تنم عن عمق ما، فأعضاء المجلس العسكرى أنفسهم يقولون إنهم لا يريدون الحكم، ولكن عندما نتحدث فى التفاصيل، لن نجد أمامنا غير القتل والانتهاك والسحل والتعرية.
بالطبع، لا أحد يحب أحدا أكثر من نفسه، وبالتالى لا أحد يطلب من شاكر عبدالحميد أن ينجو بنفسه من براثن السلطة الزائلة قريبا، لكن الواحد لا يستطيع منع نفسه من الحزن لما سيرتبط به اسم مثقف شريف شارك فى حكومة الجنزورى. سوف ينسى الكل علمه وتاريخه الجميل وقيمته الأدبية، ويتذكرونه وزيرا فى حكومة أتت سائرة فوق أجساد الجثث والفتيات المتعريات المسحولات.