أدى الكشف عن تقرير بالمار ونشره فى صحيفة «النيويورك تايمز» إلى اتخاذ تركيا سلسلة من الخطوات ضد إسرائيل، معظمها كان متوقعا مسبقا، مثل تخفيض العلاقات الدبلوماسية، والتجميد الرسمى للعلاقات العسكرية التى كانت محدودة جدا، لكن على الرغم من ذلك، فإن حجم هذه الخطوات وأهميتها شكّلا صفعة لإسرائيل. وقد كرر وزير الخارجية التركى فى المؤتمر الصحفى الذى عقده رفض تركيا الاعتراف بشرعية الحصار البحرى على غزة، وقال إن بلده سيتوجه إلى محكمة العدل العليا فى لاهاى بهذا الشأن، وإن الأسطول التركى سيعمل على تأمين حرية الملاحة شرق البحر الأبيض المتوسط. وتعود ردة الفعل العنيفة التركية إلى عدم رضا تركيا عن تسريب تقرير بالمار، ورفضها النتائج التى توصّل إليها، وخيبة الأمل من إصرار إسرائيل على عدم الاعتذار. ويبدو أن الأتراك انتقلوا من مرحلة الغضب إلى مرحلة الانتقام، والخطوات التى اتخذوها لا علاقة لها مباشرة بأسطول المساعدات أو بمطالبة تركيا بالاعتذار، وإنما تنطوى فى حد ذاتها على احتمال التدهور إلى مواجهة مباشرة بين سلاحَى البحر للدولتين. ونظرا إلى محدودية قدرة تركيا على الضغط على إسرائيل من خلال العلاقات الثنائية، فإن التوجه إلى المنظمات الدولية، وتصوير حرية الملاحة على أنها مشكلة أساسية، يهدفان إلى الضغط على إسرائيل على المستوى الدولى، الأمر الذى سيلحق بها ضررا كبيرا سيكون له انعكاساته الواسعة جدا. ويجرى الضغط التركى فى أكثر من مجال، بدءا من دعم الشكوى التى تقدم بها أهالى ضحايا أسطول المساعدات التركية ضد إسرائيل، مرورا بالتوجه إلى محكمة العدل العليا للاعتراض على شرعية الحصار البحرى على غزة، ووصولا إلى الزيارة التى ينوى رجب طيب أردوغان القيام بها لغزة بهدف توجيه اهتمام الرأى العالمى إلى ما يجرى هناك. ويعود تركيز تركيا على حرية الملاحة فى البحر الأبيض المتوسط إلى التوقعات التى تتحدث عن وجود كميات من الغاز الطبيعى هناك أكبر مما جرى اكتشافه حتى الآن، الأمر الذى يعنى استفادة قبرص من هذا الغاز، والصلة المباشرة لهذا الموضوع بالنزاع بين قبرص اليونانية وقبرص التركية. إن سبب فشل تقرير بالمار فى تحقيق هدفه الأساسى فى تسوية الخلاف بين الطرفين، وهو ما يسمح بترميم علاقاتهما ببعض، وكذلك الفشل الأمريكى فى التوصل إلى حل للنزاع، على الرغم من الضغوط الكبيرة التى مورست على الطرفين، هو الحساسية الكبيرة لدى الجمهورين الإسرائيلى والتركى تجاه قضية أسطول المساعدات، فلو أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قرر الاعتذار إلى تركيا، لكانت أغلبية الجمهور الإسرائيلى وقفت ضده. كما أن قرار عدم الاعتذار له ثمن كانت تعرفه الحكومة الإسرائيلية، ومن هنا الخلافات التى برزت داخلها بشأن مسألة الاعتذار، لكن على الرغم من عدم الاعتذار، فإن نتنياهو بذل قصارى جهده للتشديد على رغبة إسرائيل فى تهدئة الوضع وترميم العلاقات بتركيا. إن سياسة ضبط النفس التى مارستها الحكومة الإسرائيلية صحيحة بصورة عامة، لكن يمكننا التشديد على ثلاثة موضوعات: أولا، رفض تركيا تقرير لجنة الأممالمتحدة التى هى عضو فيها، فى مقابل قبول إسرائيل بالتقرير وعملها على تطبيق توصياته وإعرابها عن أسفها على ما حدث، ثانيا، التمييز المهم الذى يقيمه التقرير بين الحصار البحرى الشرعى فى نظر القانون الدولى، وبين القيود المفروضة على المعابر الحدودية البرية، ثالثا، إن جزءا من التحديات المطروحة على إسرائيل مطروح على تركيا أيضا (فالبلدان يعانيان مشكلة الإرهاب). وفى الفترة التى مرت منذ أحداث أسطول الحرية حتى صدور تقرير بالمار، وقعت أحداث مهمة فى الشرق الأوسط من شأنها أن تساهم فى جعل العلاقات بين تركيا وإسرائيل أكثر اعتدالا حتى لو كان من الصعب اليوم رؤية ذلك، إذ إن هذه الأحداث قرّبت تركيا من الغرب وأبعدتها عن إيران وسورية، وهذا تطور إيجابى فى نظر إسرائيل حتى لو لم يؤد ذلك إلى تحسين العلاقات الثنائية بتركيا. بل إن التقرب التركى من مصر، والذى حدث مؤخر ا، يجب النظر إليه بصورة إيجابية لأن تركيا قادرة على أن تشكل مصدر ثقل مضاد لنفوذ إيرانى محتمل فى مصر، وقد تساعد فى تقليص التأثير الإيرانى فى الفلسطينيين. ونظرا إلى كون مصر ما زالت تمر فى مرحلة انتقالية، فإنه من الصعب معرفة ما إذا كانت المساعى التركية للتقرب من مصر قد أعطت ثمارها. إن التطورات الإقليمية لم تساعد تركيا وإسرائيل فى حل خلافاتهما، ومع ذلك، فإننا نأمل بأن تؤدى هذه التطورات إلى التخفيف من حدة المواجهة بينهما، والتى دخلت الآن مرحلة مقلقة للغاية.