عادت فرقة التنورة المصرية مساء الأحد الماضى بعد جولة استمرت لمدة 7 أيام داخل الجمهورية التونسية، طافت فيها التنورة من العاصمة إلى مدينة الحمامات ومنها إلى مدينة سوسة ضمن إطار التبادل الثقافى بين قطاع العلاقات الخارجية المصرية بوزارة الثقافة ووزارة الثقافة التونسية. وأقاموا 4 حفلات بنجاح تام وباحتفاء من الجمهور لم أكن أتخيل درجته وقوته يوما ما.. أعرف فرقة التنورة وما تقدمه من فن خاص ومختلف، ولكن من خلال متابعتى لها على استحياء لم أر هذه الحفاوة من أى جماهير مصرية تابعت هذا الفن الصوفى ولم أر تقدى يليق به لأول مرة إلا خارج مصر، 4 رحلات هى عمر جولة الفرقة داخل الأراضى التونسية.. وحفلة تلو الأخرى يزداد الاحتفاء بتلك الفرقة النادرة وبفنها المختلف.. من خشبة المسرح البلدى بعاصمة الجمهورية التونسية إلى مدينتها العتيقة بمدرسة بئر الأحجار وهى الحفلة التى تعد الأقوى والأكثر نجاحا بين الأربعة نتيجة لطبيعة المكان والجمهور والذى فتح أفقا كبيرا من التفاعل بين ما يقدم من حالة فنية صوفية خاصة وبين الجمهور. ثم انتقلنا إلى مدينة الحمامات لتقيم الفرقة حفلهم الثالث والذى كان يعد من أقل الحفلات نجاحا نتيجة اختيار وزارة الثقافة التونسية أن تجعل آخر حفلتين فى أماكن سياحية كنوع من تنشيط السياحة وأقيم الحفل الثالث بالفعل داخل أسوار «المدينة» وهى أحد أهم المناطق السياحية بالحمامات ولكن خفت النجاح قليلا بسبب قلة أعداد السياحة الوافدة إلى تونس عقب الثورة، ولكن هذا لم يمنع الفرقة من إقامة عرضها وتمكنت بالفعل من جذب معظم الأعداد الموجودة بالمكان لينجح الحفل ويستمر لمدة أكثر من ساعة ونصف والجمهور يتابع بانبهار شديد.. يتبادلون نظرات الدهشة بين بعضهم البعض بعيون مفتوحة على وسعها من الانبهار.. آخر الحفلات أقيم فى منطقة مارينا سوسة وهى أيضا أحد أهم الأماكن السياحية بتونس ككل وكان هذا على خلاف سابقه حفلا مبهرا بحق. وكان جمهورة مزيجا بين أهل تونس وليبيا وعدة دول أوروبية مما صنع حالة كبيرة من البهجة وتفاعل الجميع بشكل كبير ظلت ترتفع شيئا فشيئا حتى وصلت ذروة التفاعل بين الجمهور والعرض فى الفقرة الأخيرة التى انسجم فيها الفنانون مع الجمهور وانصهروا مع بعضهم فى عرض مبدع. كل ما سبق فتح لى آفاق السؤال هل حقا لا كرامة لنبى فى أرضه!.. فمن خلال مرافقتى للفرقة ومتابعة كيف يتم استقبالها وأيضا كيف حققت من السمعة، ما يقود نفرا من الحضور بعدد الاحتفال ليعلن أنه أتى من بلد آخر مجاور بعدما سمع أن فريق التنورة المصرى موجود فى تونس وهى أيضا السمعة التى طافت بهم أكثر من 45 دولة حول العالم ينشرون بها حالتهم الصوفية الخاصة. عدت لأصحاب الفن نفسه وسألتهم هل حقا يشعرون بأنهم غير مقدرين فى مصر وان غير المصريين هم من يعرفون قدر هذا الفن وتاريخه جيدا.. وكانت الإجابة للأسف بالإيجاب.. فلمصريون آخر من يقدر هذا الفن.. ومن خلال مناقشاتى معهم حول الأمر عرفت سبب مرارة البعض فى الحديث عن تعامل الجمهور المصرى، فكل من أعضاء هذا الفريق الفريد يحمل على كتفه تاريخا طويلا عريقا كتاريخ التنورة الصوفية.. تأسست الفرقة منذ عام 1988 على يد مجموعة من المؤسسين، منهم محمد يوسف محمد وهو أحد أعضاء الفرقة الآن يبلغ من العمر 55 عاما ويعمل فى المجال منذ 38 عاما.. متعدد المواهب والوظائف داخل الفرقة فهو طبال وحاناتى عازف على الحانة وعازف صاجات وراقص أيضا ومازال يقوم بجميع الوظائف على ما يرام.. ويعد احد اهم مصادر بهجة الجمهور عندما يخرج عليهم بصاجاته ويظل يتلاعب بإيقاعاتها مع طبلة حافظ محمد حافظ طبال الفرقة المتعدد المواهب أيضا وهو - محمد يوسف- الوحيد تقريبا فى الفرقة الذى لم يفقد ثقته فى الجمهور المصرى، فقال: «هناك فئة من طلبة الجامعة تتذوق ما نقدمه من فن وأعلم أنهم فى ازدياد». من أعضاء الفرقة أيضا متعددى المواهب يأتى صابر رمضان 47 عاما يعمل بالمجال منذ 31 عاما وورث المهنة من والده تارة تشاهده على المسرح بالدف وأخرى بالحانة وثالثة كراقص ينصهر ككوكب من الكواكب الصوفية التى تدور على المسرح عكس عقارب الساعة كطواف الحجيج.. وهو أيضا فوق هذا كله مشرف فنى للفريق.. أحد أهم أمانيه فى الحياة أن يصدر وزير الثقافة قرارا بمنع رقص التنورة فى فرق الفنون الشعبية الأخرى لأنها أدت إلى انتشار الرقصة ولكن دون أى فلسفة أو مضمون ويرى أن هذا أحد اسباب عدم تقدير فن التنورة فى مصر.. ويطلب ممن من يريد رقص هذا النوع أن يأتى إلى فرقة التنورة الوحيدة فى مصر التى تحافظ على تلك الفلسفة.. وأيضا من الأعضاء البارزين جدا فى الفرقة هانى محمد أمين الشاب ابن ال54 عاما يدور بتنورته منذ 40 عاما ومازال يملك القدرة على الدوران ب3 تنانير وملابس الرقص الثقيلة لمدة ساعة أو أكثر بلا انقطاع.. يعلم أن الراقص عند تجاوزه ال50 لابد من الاعتزال ولكنه تعلم أيضا كيف يحافظ على نشاطة دائما بالرياضة.. حاصل على شهادة أستاذ فى الرقص من أحد المهرجات العاليمة بكوريا الجنوبية وهو أحد من تحدثوا بمرارة عن التنورة فى مصر، خاصة حين أعلن أنه ترك العمل فى السوق منذ التحق بالفرقة بعدما رأى تحول وجهة نظر الناس فى احترام الفنان وكيفية النظر له. ومن أعضاء الفرقة أيضا يأتى حافظ محمد ابن ال43 عاما والذى يعزف الايقاع منذ كان ابن 11 عاما والذى منذ أن يظهر بوجهه الأسمر وبنيانه القوى وطبلته على المسرح ومع أول دقة ينتبه الجميع ويستمتعون بحضرة طبلته، منذ أن دخل الفرقة عام 1993 لم يخرج عنها ولم يعد إلى عمل السوق بأى شكل كان، فللمسرح وللتنورة جلالهما وقدسيتهما حيث لا يخرج عنهما هو أو زملاؤه يرى أن الأجانب هم الأكثر حفاظا على متابعتهم وتذكر معى مجموعة من اليابانيين متابعين لعروض الفرقة بمسرح الغورى منذ أكثر من عام بلا انقطاع حتى الآن. ومن الفنانين المؤسسين أيضا للفرقة يأتى أحمد الحلوانى العجوز المخضرم الذى سمعت عن فنه كثيرا ولكن لم أتمكن من متابعته لسوء الحظ طوال الرحلة لمرضة المفاجئ والذى أقعده طوال الرحلة تقريبا. ومن متعددى المواهب أيضا علاء أبوسريع الحناتانى والراقص وعازف الصاجات واحد مدربى فرقة التنورة، ورث المهنة عن أخواله ويعمل بها منذ 35 عاما ويرى أن متابعى هذا الفن من المصرين بعض النخب القليلة على عكس متابعيها الأجانب والذى دائما ما تملأ وجوههم جميع عروض الفرقة فى أى مكان. ومن أكثر من يشكو مرارة عدم التقدير من الجمهور المصرى الراقص الشاب حسن بلبل ورفيقه فى الرقص بالتنورة أحمد علوان ذلك الثنائى المدهش الذى قام طوال الرحلة ببطولة الفقرة الأخيرة بتنانيرهما المتعددة. شكلا معا ثنائيا مبهرا يقودان رقصهما مع بعضهما البعض بالابتسامات ولديهما القدرة على فهم بعضهما بنظرة واحدة وكان أداؤهما طوال الرحلة مبهرا. ضرب بلبل لى مثلا وقال لو رقصنا فى مصر وعلى مسرح آخر راقصة فلن ينتبه لنا مصرى واحد.. ولكن لو جمهورنا من الأجانب لن يتركونا ولو لألف راقصة.. وهكذا يرى أحمد علوان أيضا ويقول كثرة التقليد لفرقتنا دون فلسفة أو عمق من بعض الفرق الأخرى جعلت المصرى يفقد دهشته ويعتقد أن التنورة مجرد دوران فقط.. وحكى حسن كثيرا عن مقابلته للعديد من صانعى الأبحاث والدراسات عن التنورة وعن فرقتهم ومنهم فتاة يابانية اتت على نفقتها الخاصة وأقامت فى مصر عامين لإجراء دراسة عن الفرقة. ويأتى الراقص والحاناتى جمال هلال والذى يعمل فى المجال منذ 42 عاما ليشكل منحى آخر فى تعدد المواهب فلم يقصر عمله فقط على الرقص والإيقاع بل وقع فى غرام تفصيل وتصميم التنانير حتى صار أحد محترفى هذا الفن بجانب فنه الأصلى وهو الرقص.. والذى يرى أنه وبعد قيام ثورة 25 يناير ظهر الجمهور المصرى بمظهر أفضل فى التعامل معهم وبدا يقبل على فنهم وإن كان على استحياء. بقى من العاملين الثلاثى الخاص والذى لا علاقه لهم بالرقص جسديا ولكنهم يمتلكون مفاتيحه وهم الشيخ سعيد الموجى المنشد الكبير وفارس جمال عازف السلامية وناجح عبدالسميع عازف المزمار الصعيدى، هذا الثلاثى الذى يشكل عباءة افتراضية تحتوى العرض وتفاصيله ويظل يدور بداخلها طوال الوقت.. ويفرضون معا بالعزف والانشاد حالة خاصة جدا. كل هذا ولا يجوز أن ننسى ولم ينس بالفعل اعضاء الفريق تذكر المايسترو محمود عيسى.. قائد الفرقة واباها الروحى.. تولى أمر الفرقة منذ عام 1990.. تولاها 16 فردا بعدما انشاها صلاح عنانى عام 1988 ووصل بها الآن إلى 56 فردا وخرج على يديه 5 أجيال من أهم عازفى وراقصى التنورة فى مصر والعالم.. طاف بهم ما يقارب نصف الأرض وحقق نجاحات لا تعد.. وأجمع جميع الأعضاء بأن من لم يخرج من مدرسة محمود عيسى لم يفهم التنورة أبدا.. يفرض عليهم كثيرا من القوانين المنظمة لحياتهم ولكن يستمتعون بالولاء لها لأنهم يعلمون أن تلك القوانين والنظم هى ما منحتهم هذه القيمة العالية فى شتى بقاع الأرض والذى يحلمون بمثلها من الجمهور المصرى. بقى أن نذكر أن الوفد المصرى تكون من 15 فردا بصحبة محمد رجب مندوب قطاع العلاقات الخارجية بوزارة الثقافة والذى شارك مع محمود عيسى قائد الفرقة فى حل العديد من الأزمات التى واجهت الفرق وعلى رأسها المرض المفاجئ للفنان أحمد الحلوانى والذى استدعى نقله للمستشفى فى رابع أيام الجولة وقضاء النهار معه حتى عودته مرة أخرى لغرفته بالفندق.