أصداء قصة سيدنا يوسف تتردد، على نحو خافت، فى «دكان شحاتة»، فالأب، بأداء متمكن من محمود حميدة، يغدق محبته على أصغر أبنائه، يدلله، يرعاه، يخاف عليه من أشقائه، الذين تم اختصارهم إلى ولدين وبنت، الضغينة تعتمل فى قلبى الولدين والرحمة تظل دافئة فى قلب الأخت، أما يوسف نفسه، بطل الفيلم ومحوره. فإنه بدا بلا معالم واضحة، فأحيانا يبدو قويا، معنويا وجسديا، صاحب إرادة يعتد بها، ويتمكن من مواجهة العديد من البلطجية، يطرحهم أرضا وينكل بهم، لكما وصفعا ورفسا، وأحيانا يؤكد، كلاما وسلوكا، أنه على قدر كبير من الضعف، عقليا وبدنيا، لا يفهم شيئا ولا يقوى على فعل. إنه خائب إلى درجة يفقد معها تعاطف المشاهدين معه، هنا تكمن إحدى بؤر التصدع فى فيلم متحيز فى جزئياته، قوى فى لغته السينمائية، طموح فى محاولته لرصد أهم الوقائع التاريخية خلال ثلاثة عقود. يقدم عددا كبيرا من الشخصيات، يحاول رصد علاقاتهم ببعضهم البعض من ناحية، ويرمى إلى النفاذ لجوهرهم من ناحية أخرى، وبالتالى جاءت حمولة «دكان شحاتة» أكبر من طاقته، وبالضرورة ترك إحساسا عند المشاهد بأنه شاهد فيلمين أو أكثر. يبدأ الفيلم من المستقبل «العام 2013»، ويتقهقر إلى الماضى، مسجلا، بعناوين الجرائد واللقطات الوثائقية، أبرز وأهم الأحداث العالمية والمحلية، إلى أن يصل للعام «1983»، حيث مولد «شحاتة»، معادل سيدنا يوسف، ومنذ المشاهد الأولى يتجلى أسلوب خالد يوسف بقدرته على تجسيد الأجواء الواقعية للمكان والزمان. والشخصيات: عتمة ليل الصعيد، الرجل القلق حجاج ومعه حلاق القرية يهمان بدخول البيت، حيث صرخات زوجة حجاج، التى تعانى ألم ولادة عسيرة، من عمق الحارة تأتى عربة شرطة كبيرة، يفسر الحلاق حضورها بأنها للقبض على بعض الشباب، وتستكمل الأجواء القائمة بوفاة الوالدة. يعود «حجاج» للقاهرة مع وليده، وفى الفيللا التى يعمل بها يطالعنا صاحبها، الدكتور الحكيم، الثرى وجدانيا، المضطهد سياسيا يؤدى دوره بشفافية، عبدالعزيز مخيون الذى يعيش وحيدا بعد أن هاجر ابنه للخارج، ولن يعود إلا بعد وفاة والده كى يبيع الفيللا. تتوالى التنقلات الزمنية سريعا، مؤكدة اتساع الهوة بين شقيقى «شحاتة» وبينه، خاصة بعد أن يكتب اسم «دكان شحاتة» على واجهة دكان الفاكهة المقتطع فى حديقة الفيلا، ويزداد الأمر سوءا حين يقرر الأب خطبة «بيسة» لشحاتة بدلا من ابنه «سالم»، ويزداد الفيلم حرارة وتدفقا مع دخول شخصيات جديدة يدمجها كاتب السيناريو ناصر عبدالرحمن دمجا كاملا فى بناء الفيلم. ويوزع خالد يوسف هذه الشخصيات على ممثلين أكفاء، يوجههم بمهارة، بعضهم يسطع لأول مرة، على شاشة السينما، فها هى هيفاء وهبى، المشكوك فى قدرتها على الأداء الجاد، تكشف عن موهبة أصيلة، وفهما عفويا عميقا للانفعالات المختلفة والمتباينة. تحتضن شحاتة بنظراتها فى المواقف الرومانسية، تفيض عيناها بالتعاسة الممتزجة بالرغبة فى التمرد مع الإحساس بقلة الحيلة عندما يقمعها شقيقها تارة وزوجها الذى تكرهه تارة أخرى. إنها مكسب ثمين للسينما المصرية. وإذا كان عمر عبدالجليل حقق لمعانا فى أدائه لشخصية «كرم غباوة» بلطجى موقف الميكروباص الذى لا أخلاق ولا مبادئ له، فإن تابعه، ذراعه اليمنى، الذى جسده ممثل جديد اسمه «رامى غيط»، يفاجئنا بأداء بالغ الخصوصية. إنه يبدو كما لو كان ولد ونشأ وكبر فى بؤرة الصراعات البدائية، متجانس تماما مع بيئته، بالإضافة لدرجة ما من التخلف العقلى، ألثغ بلا كرامة أو قيم، يعطى إحساسا بأنه من دون ضوابط، من الممكن أن يفعل أى شىء فى أى وقت. وثمة «محمد كريم» فى دور «سالم» شقيق شحاتة، يتزوج من بيسة التى لا تستجيب له، مما يزيد حنقه على أخيه. إنه الكراهية تمشى على قدمين. أما غادة عبدالرازق، نجمة خالد يوسف الأثيرة، فربما استسلمت لإغراء اندفاع انفعالاتها فاتجهت إلى المغالاة فى الصراخ والبكاء ولطم الخدود. إنها تحتاج لإدراك قوة تأثير الاختزال والتكثيف والاعتماد على الصدق الداخلى. الآباء يموتون: «حجاج»، والدكتور مؤنس صاحب الفيللا، ولا يفوت خالد يوسف أنى يشير إلى موت الأب جمال عبدالناصر، وعلى العكس من جيل الآباء يأتى الجيل التالى متسما بقدر كبير من النذالة، بالإضافة لخفوت العزيمة، فبلا تردد يبيع ابن الدكتور مؤنس الفيللا كدولة أجنبية، ويزج شقيقا شحاتة به إلى غياهب السجن. يخرج بعدها مصابا بحالة مزرية من البلاهة العاطفية، فبدلا من أن يصفى حسابه معهما، ينهنه بالبكاء متمنيا أن تكتحل عيناه برؤيتهما، والواضح أن عمرو سعد وقع فى قبضة الحيرة، وهو يؤدى دور شحاتة، فلا هو البطل الذى يدافع عن حقوقه، ولا هو الكائن الوديع، الذى قاده ضعفه لحتفه، لذا لجأ إلى تقمص شبح أحمد زكى لعل وعسى. فى «دكان شحاتة» عدة أغنيات، قد تكون جميلة فى حد ذاتها، لكنها خارج سياق الفيلم على قصة أسرة تتنازع الميراث، فيقدم شذرات من كوارث القطار وحريق مسرح بنى سويف وغرق العبارة بالإضافة لإضراب القضاة، لكن كل هذه المشاهد تصر على عدم الدخول فى نسيج العمل. وتأتى النهاية التى يختلط فيها الحابل بالنابل فنرى أناسا كالنمل فى حالة هرج ومرج، يندفعون فوق كبارى المشاة، وثمة بعض المصفحات متناثرة فى الميادين، إنها نهاية فيلم آخر، غير «دكان شحاتة».