ليس من شك فى أن انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة بينما يمثل فى شخصه تجمعا من الأقليات لم يكن من المتصور أن يصل أيها إلى قمة السلطة ليس من شك فى أن هذا التطور الثورى فيما أعتقد جاء كرد فعل لسياسات سنوات حكم اليمين المحافظ الممعن فى المحافظة، المتعصب المبالغ فى تعصبه، بقيادة زمرة من ذوى الأفكار الفجة والمتجمدة التى استولت على عقل وإرادة رئيس ضعيف يفتقر إلى الثقافة الحقيقية والفكر القادر على الخروج من قوقعته. فكان أن أساء الحكم السابق إلى الولاياتالمتحدة وما كان قد بقى لها من سمعة تستند إلى مبادئ كان بعضها نظريا أكثر مما كان عمليا، وأوجد فى العالم أجواء أحدثت انقساما حتى فى داخل بعض الناس، جزء منهم معجب ببعض مظاهر الحياة الأمريكية فى مناح كثيرة من الحياة الثقافية والفنية والفكرية بل السياسية، والجزء الآخر مفعم بمشاعر الكراهية لسياسات الأمريكى القبيح، على حد تعبير رواية شهيرة صدرت منذ سنوات إبان حرب فيتنام التى ستظل فيما أعتقد نقطة فارقة فى تاريخ الولاياتالمتحدة وسلوك أبنائها الذين اختلط فى داخلهم الشعور التقليدى بالافتخار بالوطن، وشعور مستجد بالعار أعاد إلى السطح مأساة القضاء على سكان القارة الأصليين. وجاء انتخاب الشاب الأسود المثقف الشجاع الذكى المستعد للانفتاح على العالم بالحوار وليس بالإملاء، وبالتفاهم وليس بالضرورة بالقنابل، ليثير موجات من التفاؤل كان أحيانا مبالغا فيه إلى درجة تصور فيها البعض وصورها أنه يحمل معه عصا سحرية يعالج بها كل المشكلات، بينما يبقى الآخرون قاعدين ينتظرون الفرج على يديه، وهو خطأ لا يصح أن يقع فيه أحد. فغاية ما حدث أن انتخاب أوباما حرث الأرض ومهدها لكى تستقبل بذورا خيرة، ولكنه لم يتخلص ولا يستطيع التخلص من الحشائش الضارة التى تسعى للالتفاف حول كل رئيس جديد فى نظام سياسى تتعدد فيه مراكز القوى حتى إذا كان منصب الرئاسة من بين أهمها، ولكن هناك إلى جانبها وبالإضافة إلى السلطتين التشريعية والقضائية، ونفوذ المال، قوة الرأى العام المنظم فى «لوبيات» جمع لوبى إذا صح هذا الجمع تدافع عن قضايا معينة داخلية أو خارجية وتتمتع بنفوذ كبير فى جميع الأوساط التى تتوغل فيها. قد لا يكون فى كل ما ذكرت جديدا، ولكنى أردت التذكير به إزاء تيارين لمست وجودهما لدى الرأى العام لدينا، التيار الأول يقول مخطئا لا فائدة، فالولاياتالمتحدة تبقى رغم كل مظاهر التغيير قوة غاشمة تضع قوتها فى خدمة ما تعتبره الحقيقة المطلقة التى تمتلكها والتى ترى من مسئوليتها أن تنشرها فى العالم كله، بالإقناع أو بالقوة إذا اقتضى الأمر سواء كانت قوة ناعمة أو باطشة، أما التيار الثانى فهو ذو طابع طوبوى يرى الأمور من لونين فقط الأبيض والأسود، وهذا الرئيس الأسود يمثل الجانب الأبيض من سياسة معدنها طيب وهو قادر على أن يصلح الأمور. والحقيقة هى قطعا بين الاثنين، مما يضع علينا مسئولية أن نستفيد من الأوضاع الجديدة ليس استفادة المتلقى المنتظر لفرج الله، بل المتحرك الفاعل النشيط القادر على إيجاد الظروف المناسبة لكى تينع الزهور وينمو الزرع فى الأرض التى أصبحت ممهدة تختلف عما سبق من أوضاع كارثية. قد لا يكون فى تلك المقدمة جديدا، ولكنها مع ذلك تستحق التكرار إزاء موجات من التعليقات التى اتسمت بالمبالغة والإفراط فى اتجاه أو آخر بمناسبة زيارة الرئيس أوباما للمنطقة، وأتوقف عند كلمة المنطقة، فقد لمست أولا افتخارا مبالغا فيه لأن الرئيس الأمريكى اختار القاهرة ليوجه منها كلمة مهمة إلى العالم الإسلامى والعربى يعلن فيها رسميا عن فتح صفحة جديدة بعيدا عن ترهان الحرب ضد الإسلام والادعاءات عن «الإسلام الإرهابى أو الفاشى» التى ساهم أعداؤنا والبعض منا للأسف فى الترويج لها بأفعال وأقوال ما أنزل الله بها من سلطان. مع أن الواقع هو أن اختيار القاهرة كان اختيارا طبيعيا ومنطقيا وليس هدية من أوباما لنا فنحن نعرف قدرنا دون الحاجة إلى تكرار الحديث عنه بلا مقتضى كأننا نتشكك فيه، ولكنه دليل يحسب فى صالح ذكاء الرئيس الأمريكى وفطنته، ثم لمست نوعا من الأسف لأنه اختار أن يتوقف لبضع يوم وليلة فى عاصمة عربية أخرى صديقة، كأن بعضنا يؤمن بالاحتكار، كما بدا من قبل فى ردود فعلنا لبعض الجهود العربية، ولبعض محاولات الإسهام فى تحريك أمور تحتاج إلى تحريك، وهو موقف من بعضنا يسىء إلينا ويتسم بمشاعر غيرة لا يصح أن تكون لدينا ونحن نعرف قدر أنفسنا، وهى غيرة إذن فى غير محلها وتسىء إلينا وتنطلق من بعض العقد النفسية التى ليس لها مكان ولا منطق، والتى يجب أن يتخلص منها بعضنا، كما يجب أن يتخلصوا من أسلوب الرد عن طريق الشتائم والسخائم بدلا من المجادلة المنطقية لما لا يعجبنا فى تصرفات الآخرين، ودحض ما قد يتورط فيه البعض من توجيه سهام إلينا يسهل تجنبها بدلا من تعميق جراحها. أعود إلى حديثى الأصلى، فأقول: إن المواقف التى عبر عنها الرئيس أوباما كما أعربت عنها لدهشتى نظرا لبعض سوابقها وزيرة خارجيته عن القضية الفلسطينية حملت بالقطع روحا جديدة، لم تستطع زيارة نتنياهو وكل ما ارتبط بها من ضغوط أن تغيرها، فالولاياتالمتحدة فى عهدها الجديد أكدت بحزم ضرورة وقف الاستيطان، وأعلنت بصدق ضرورة قيام دولة فلسطين المستقلة على أساس حدود 1967 تعيش فى سلام مع إسرائيل، التى يجب بالتالى أن تتخلى عن أوهامها وأطماعها التوسعية، كما صدرت تصريحات وتلميحات حول انضمام إسرائيل إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية والالتزام بأحاكمها، ورغم ضغوط اللوبى اليهودى، فيبدو أن الرئيس الأمريكى مصمم على التمسك بمواقفه سواء فى هذا الموضوع أو غيره، مثل رغبته فى الحوار مع إيران، ورفضه تحديد حد زمنى أقصى لهذا الحوار تفتح بعده أبواب جهنم، ومثل موقفه الحازم ولكنه المتعقل الراغب فى تحقيق أكبر قدر من التوافق الدولى إزاء التفجير النووى الكورى. نقطة واحدة استوقفتنى هى تصريح منسوب إلى مسئولين أمريكين حول اشتراط فى حالة قيام حكومة وحدة وطنية فلسطينية أن يلتزم المشاركون بالشروط التى حددتها الرباعية، وهى شروط أفشلت جهودا فى الماضى ويمكن أن تضر بالجهود المصرية الحثيثة لرأب الصدع الفلسطينى، والغريب أن أحدا لم يشترط أن تعلن العناصر المتطرفة التى شكلت الحكومة الإسرائيلية الالتزام بأى من تلك الشروط، بل إن نتنياهو يعلن ليل نهار رفضه إقامة دولة فلسطينية مستقلة وهى أساس أى تسوية ممكنة. ويقودنى الحديث عن حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية إلى العودة إلى ما سبق أن ذكرته فى بداية حديثى من أنه إذا كانت الأرض فى واشنطن أصبحت ممهدة لتطورات إيجابية، فإن علينا أن نستفيد من ذلك عن طريق توحيد المواقف العربية ليس فقط فى إطار مبادرة السلام بل فى إطار أشمل وأعم. فإن الانقسامات العربية أيا كانت مبرراتها وأيا كان شكلها أو مضمونها تفوق قدرتنا على الاستفادة من الفرص الحقيقية المتاحة، وبالتالى فإن جهودا حثيثة مطلوبة، تكون بدايتها التوقف عن أسلوب «الردح المتبادل» الذى يطل أحيانا برأسه فى بعض الكتابات التى يجب أن تترفع عن السباب وتتجه إلى مناقشات موضوعية لأوجه الخلاف أو الاختلاف بهدف تجاوزها أو احتوائها أو إدارتها على حد تعبير أعجبنى بما لا يمس بجوهر ما يجمعنا، وهو أكثر بكثير مما يفرقنا أو نتصور أنه يفرقنا. وفى انتظار أن نسمع خطاب أوباما ونعلق عليه. أريد أن أخرج بعض الشىء عن الموضوع، فقد تابعت باهتمام ما تم من ترميمات وتجديدات فى جامعة القاهرة على أساس أنها قد تكون المكان الذى سيلقى منه الرئيس الأمريكى كلمته. والحقيقة أن الجامعة العريقة كانت تحتاج إلى مثل هذه «العمرة» وليتها تمت بمناسبة الاحتفال بمئوية الجامعة كمظهر من مظاهر تجديد شبابها، وإيذانا ببدء عملية إصلاح شكلية وموضوعية تعيد إلى الجامعة مكانتها بين أعضم جامعات العالم حيث سقطت للأسف من قائمة الخمسمائة الأهم منها فى السنوات الأخيرة بعد أن كانت ونرجو أن تعود لتكون منارة للعلم والحداثة والتنوير فى منطقة تمتد غربا وشرقا إلى مسافات بعيدة.