أقابل هذه الأيام أصدقاء ومعارف يؤكدون أنهم صاروا يتمتعون بصحة أفضل منذ أن بدأوا ينشطون اجتماعيا بعد فترة من التقوقع أو الانشغال. لفت نظرى أن عددا منهم يعتقد بحق أن أحواله الصحية تحسنت مع نشوب ثورة يناير. فالثورة التى صارت مثل اللازمة التى لا يخلو منها أى حديث فى أى موضوع، رفعت روحه المعنوية وجددت الأمل فى المستقبل ودفعت بالدماء تجرى بحماسة فى عروق كاد بعضها يجف بفعل الركود الطويل والملل غير المحدود وانقراض فرص التفاؤل. يعتقد البعض منهم أيضا أن انتعاش عافيته إلى حد ضمور الشكوى من أوجاع أو أمراض بعينها يعود إلى أنه عاد يختلط بأصدقاء وأقرباء تباطأ اختلاطه بهم أو توقف فى السنوات الأخيرة. فى الحالتين، ينسبون انحسار المرض، أو على الأقل أعراضه، إلى ثورة يناير، وفى التفسير مبالغة لا شك فيها، ولكن فيه أيضا ما يستحق التأمل واستشارة أهل العلم والعلماء، إن أمكن. ••• أجرت جامعتا بريجهام يانج وكارولينا الشمالية دراسة شملت 300.000 حالة من رجال ونساء لبحث العلاقة، إن وجدت، بين الحالة الصحية للفرد وعلاقاته الاجتماعية. تقول الاستاذة جوليان هولت لانستاد إنها اكتشفت عند تحليل نتائج الدراسة أن حوالى 50% من الأفراد الذين لا يقيمون علاقات اجتماعية أو يقيمون علاقات ضعيفة معتلو الصحة ومعرضون دائما للإصابة بأمراض شتى. وبمقارنة النسب والأرقام لاحظت الاستاذة أن هذه هى النسبة ذاتها التى ينقسم إليها المدخنون وغير المدخنين، إذ إن أكثر من 50% من المدخنين مثلهم مثل الذين لا يقيمون علاقات اجتماعية نشطة معتلو الصحة ومعرضون للإصابة بالعديد من الأمراض، وهى النسبة نفسها التى كشفت عنها دراسات عديدة بحثت فى العلاقة بين الحالة الصحية العامة وحالتى السمنة المفرطة والتقصير فى أداء تمرينات رياضية. لم يهتم العلماء بدراسة هذه العلاقة إلا حديثا جدا، وكان مجرد الإشارة إليها يثير تعليقات ساخرة خاصة وأن كثيرين درجوا على الربط التلقائى بين أعراض المرض وفيروساته وميكروباته. درجوا أيضا على رفض الدعوة إلى الاهتمام بالصحة النفسية باعتباره وسيلة من وسائل الوقاية من أمراض عديدة. تقول جوليان إنه ثبت الآن أن مناعة الجسم النشيط اجتماعيا تزداد قوة وتعمل بشكل أفضل من مناعة جسم إنسان انطوائى أو إنسان اضطرته الظروف للانعزال والتقوقع. تؤكد ما ذهبت إليه الدراسة التى أجرتها الاستاذة جوليان التجربة التى أقدم على تنفيذها شيلدون كوهين من جامعة كارنيجى ميللون على شبان حين قام بتعريضهم للعدوى من مرضى مصابين بنزلات برد. اكتشف كوهين أن الشبان الذين يقيمون مع أصدقاء أو أقارب ويختلطون بهم بكثرة كانوا أقل إصابة بالعدوى من الشبان المقيمين فى غرف منفردة وذوى العلاقات الاجتماعية الضعيفة والخجولين والمنطوين على ذواتهم. ••• كان معروفا لدى الأطباء منذ مدة غير قصيرة أن سرعة ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم ينخفضان لدى المرضى الذين يعانون من توتر عصبى والمرضى المتأهلين لعمليات جراحة كبرى، إذا اقترب منهم أقرباء أو أصدقاء ولمسوا أيديهم أو ربتوا على أكتافهم ومسحوا على جبهاتهم. كان معروفا أيضا أن الأطفال الذين سمح لهم بالتحدث إلى أمهاتهم فى أعقاب موقف أو وضع مثير للتوتر كالحوادث أو الامتحانات أو الاشتراك فى عرض مسرحى، تهدأ أعصابهم ويعودون إلى حالتهم الطبيعية بعد لقائهم بأمهاتهم. نحن أنفسنا كنا نعرف أن وجود الأهل حولنا يخفف عنا ألم «غز الإبرة» فى الذراع بحثا عن عرق يسحبون منه الدم أو يسربون فيه الدواء. نعرف أيضا أن الزوجة، حين تحين ساعة الوضع، تتمنى أن يكون زوجها إلى جوارها، ربما أكثر مما تتمنى وجود أمها، وكلاهما مصدر قوة وحماية لها. ولكننا لم نتصور أن وجود هذه الأشكال للتعبير عن العلاقات وممارستها فى كل الأوقات ضرورة للوقاية من الأمراض ولاستعادة عافيتنا. ••• المشكلة كما أراها تتعلق بصعوبة الاستفادة عمليا من العلاقات الاجتماعية للمريض لوقف تردى وضعه الصحى إذا تعذر على الطبيب أن يفرضها قسرا على المريض كما يفرض أقراص وجرعات الدواء. لن نقرأ فى «روشتة» أمرا من الطبيب بإقامة علاقة اجتماعية قبل تناول الغذاء أو بعد العشاء أو لمدة محدودة كل يوم. ولن نجد الطبيب الذى يخصص وقتا أطول مع مرضاه يسألهم عن أى العلاقات الاجتماعية يفضلونها على غيرها، وعن الصديق أو القريب الذى يرتاح المريض لصحبته أكثر من غيره فيوصى بالإكثار أو التقليل من زياراته. وقد لا يكون من الخير فى شىء توجيه المريض نحو إقامة علاقة مع أى شخص أيا كان أو بتكثيف كل علاقاته دفعة واحدة، فبعض العلاقات كما جربنا فى حياتنا ضار بالصحة العامة وبالأخلاق وبالاستقرار العاطفى. بمعنى آخر ليست كل العلاقات الاجتماعية مفيدة للصحة ومقوية لجهاز المناعة فى كل الحالات وفى كل الأوقات. ••• تبقى قائمة، وتستحق الأخذ بها، نصيحة العلماء لحياة أفضل وأطول: انهلوا من نبع الصداقة والحب وكثفوا علاقاتكم الحميمة ما استطعتم، وامتنعوا عن التدخين.