أكدت نيللي كريم أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة ، في كتابها "حرفيون مستثمرون: بواكير تطور الرأسمالية في مصر"، " أن حداثة مصر لم تنجم عن مجرد الاتصال بالغرب ، بل كانت لها آلياتها ومصادرها الداخلية في المجتمع المصري"، و الكتاب صدر مؤخرا عن المركز القومي للترجمة، من ترجمة كمال السيد. ويدور الكتاب حول الحرفيين في القاهرة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين ، ويحاول إدماجهم في تطورها التاريخي ، ملقيا نظرة عن كثب على بعض منهم، وخاصة ممن كانوا ينخرطون في صناعة منتجات مهمة للسوق المحلية والتصدير، لبيان كيف تطوروا وطوروا أدواتهم الرأسمالية في فترة مفصلية من تاريخ مصر. وتشير الفكرة المحورية في الكتاب إلى أن تاريخ مصر لم يصنعه حكامها، بل اختطه زراعها وتجارها وصناعها والعاملون في كل مجالات الحياة، وتطرح الدراسة - بحسب المقدمة - أفكارا مهمة، منها أن الرأسمالية في مصر لم تنشأ من أعلى فحسب، بل كانت هناك رأسمالية من تحت، لعبت دورها في المسيرة الاقتصادية للبلاد. ويكشف الكتاب أن أوروبا لم تكن مركز الكون في نشأة الرأسمالية بالعالم، إذ نشأ إنتاج صناعي ورأسمالية في الهند وبعض أرجاء آسيا، وبعض ولايات الامبراطورية العثمانية، وفيما كان الابتكار والتقدم التكنولوجي حاسمين في ازدهار الصناعة والرأسمالية في الغرب، فإن تنظيم المشروعات وعلاقات العمل عوض ذلك في نشأة الصناعة والرأسمالية في الهند ومصر وغيرهما. ويشدد الكتاب على أن دخول مصر للاقتصاد الحديث لم يبدأ من الاتصال بالغرب، وإنما نبعت جذوره من آليات العمل الداخلية للاقتصاد والمجتمع المصري، وأنه انطوى على عوامل شتى من أهمها- إضافة لنمو التجارة الداخلية- اشتداد ساعد هياكل السلطة في مصر، وانخراطها في الاقتصاد من ناحية، ومقاومة الصناع والتجار لافتئات العسكر، ومزاحمة الأجانب من ناحية أخرى. وتركز المؤلفة على فكرة أن هناك أكثر من مصدر للرأسمالية في مصر ، فبالإضافة للتأثير الأوروربي ورأسمالية الدولة التي أقامها محمد علي، أو ما نشأ عن حيازة الأرض ، فهناك الدور البارز الذي لعبته الممارسات الرأسمالية التي اضطلع بها الصناع في مشروعاتهم الصغيرة، فضلا عن رأسمالية التجار، وقد تعايشت هذه المصادر وتفاعلت، وفي فترة لاحقة خضعت أشكال منها لغيرها. وترصد المؤلفة أن عمليات التنمية والتحديث التي قام بها محمد علي لم تكن مجرد أعمال لرجل عظيم، بل سياسات لها سياق سابق أثر في مسارها، وأن سعيه لإحكام قبضته على الاقتصاد سبقه سعي المماليك للسيطرة على طوائف الحرف، كوسيلة للتغلغل في الحياة الاقتصادية. ويشير الكتاب إلى أن اندماج مصر في النظام الرأسمالي العالمي انطوى على تأثير طبقة بازغة من أشخاص استفادوا من التجارة الخارجية، ونضال واستراتيجيات التجار والصناع، للحفاظ على مصالحهم، كما انطوى أيضا على تحقيق مصالح دول المركز الأوروبي وشبكة تحالفاتها في المنطقة. ويكشف الكتاب عن دور الصناع والحرفيين المصريين في تحقيق رأسمالية الدولة، بالوثائق والأسانيد، مؤكدا أنه لم يكن دورا فريدا، فالسوق الدولية لم تكن هي المصدر الوحيد، بل كانت الأسواق المحلية- وليست الخارجية- هي مصدر تطور الرأسمالية المصرية في كثير من الأحيان، فهي "جيوب رأسمالية في مناخ غير رأسمالي".