«يا للمفارقة، ليخبرنى من يرى أن ال500 جنيه كحد أدنى كافية للمعيشة، كيف سيستطيع هو أن يعيش بهذا المبلغ»، يتساءل إبراهيم الأزهرى، عضو فى لجنة حقوق الإنسان فى الاتحاد العام للعمال. بعد ما يقرب من ربع قرن من ثبات فى الحد الأدنى للأجور، يدرس الجهاز الإدارى للدولة رفع هذا الحد ليصل إلى 500 جنيه. «هل من المعقول أن يتسنى أن يكفى هذا المبلغ للاحتياجات الأساسية مع التزايد المستمر للأعباء والأسعار على كل أسرة متوسطة؟» يتساءل الأزهرى مشيرا إلى أنه حتى على الرغم من الأزمة وانخفاض الأسعار عالميا، فإن الأسعار فى مصر بصفة خاصة لا تزال تواصل الارتفاع، وتطور معدل التضخم الشهرى يدل على ذلك. وكما أعلن الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، واصل معدل التضخم على المستوى الشهرى ارتفاعه على مستوى إجمالى الجمهورية فقد سجل فى إبريل زيادة بنسبة 1.6%، مقابل 1.4% فى مارس و1.2% فى فبراير، و0.3% فى يناير. فى الوقت نفسه، عاود معدل التضخم السنوى فى إجمالى الجمهورية ارتفاعه فى شهر أبريل ليصل إلى 12.2% مقابل 11.6% فى أبريل من العام الماضى. «أليس من حق الموظف أن يحصل على حد أدنى من المرتب الذى يسمح له بمواجهة هذا الغلاء؟»، يتساءل الازهرى. لماذا حد أدنى للأجر؟ وفقا لعبدالفتاح الجبالى، رئيس الوحدة الاقتصادية بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، وعضو بالمجلس الأعلى للأجور، الإجابة هى أن الحد الأدنى للأجور من شأنه ضمان مستوى لائق لمعيشة العاملين فى الدولة، وخلق نوع من التوازن بين صاحب العمل والعمالة من خلال توفير حد أدنى للأجر يسمح بخلق نوع من الحماية للعاملين فى الدولة، والأهم من ذلك خلق فرص عمل الجيدة ومحترمة تكفل للعامل دخلا عادلا ومكان عمل آمن وحماية اجتماعية، مما يتفق مع شروط منظمة العمل الدولية. على هذا الأساس يضيف الجبالى، معلقا على الحد الأدنى بمشروع جهاز التنظيم والإدارة رفع الحد الأدنى للأجور إلى 500 جنيه. «كيف تم حساب هذا الحد الأدنى ووفقا لأى معايير يتم تحديده، لا أحد يعلم، ولا يوجد أى دراسة تفصح عن ذلك». الحد الأدنى للأجر الأساسى فى مصر لم يتم رفعه منذ عام 1984 ويبلغ 48 جنيها (دون حساب الحوافز والأجر المتغير). ومنذ أن قرر المجلس الأعلى للأجور النظر فيه، طالب اتحاد العمال بوضع حد أدنى لا يقل عن 1200 جنيه للفرد، قبل أن يعود ليقبل بعد مناقشات بين جهاز الدولة وبينه، رقم ال500 جنيه. الفارق كبير بين الحد الأدنى التى تدرسه الحكومة، وذلك الذى طالب به اتحاد العمال، ولكن أيهما الأنسب وأيهما الأقرب للواقع؟ يقول سمير رضوان، مستشار فى هيئة الاستثمار وخبير فى مجال العمالة، إنه يجب قياسه تبعا لحد الفقر، كما قامت ال140 دولة التى وضعت حدا أدنى للأجور. ووفقا لرضوان، فلكى لا ينزل أى فرد تحت خط الفرد، يجب ألا يقل دخله فى العام عن 1840 جنيه، أى حوالى 155 جنيه فى الشهر للفرد، وإذا ضربناه فى 4 أفراد المتوسط «المثالى والأكثر»، بحسب رضوان، لعدد أفراد الأسرة نجد أن الحد الأدنى لأجر العائل لا يجب أن يقل عن 620 جنيها. الخلاف ليس فى القيمة فقط ولكن أيضا فى الفكرة. لم تكن قيمة الحد الأدنى نقطة الجدل الوحيدة التى حالت دون وضع حد أدنى للأجور طوال هذه الفترة، بل كانت الفكرة نفسها والخوف مما قد يترتب عليها من تداعيات فى سوق العمل عائقا أمام الفكرة. فطالما رفضت الشركات والمؤسسات العاملة فى الدولة تحديد أو رفع الحد الأدنى للأجور زاعمة أنه سيحد من قدرة الشركات على التعامل مع موظفيها (مجازاتهم حين يهملوا أو يخطئوا) مما سيؤثر بدوره على الإنتاجية وكفاءة العمل. وإن كان رئيس الوحدة الاقتصادية بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية لا يتفق مع هذا الرأى إلا أنه يرى ضرورة أن يكون الحد الأدنى للأجور متسم بالكفاءة والمرونة حتى يتحقق الهدف السليم منه. «الكفاءة والمرونة شرطان أساسيان للتفعيل الصحيح للحد الأدنى للأجور، وأقصد بالكفاءة عدم المبالغة فى قيمته بحيث يسمح بخلق نوع من التوازن بين حماية العمال وخلق حافز للشركات لمزيد من التعيينات، أما المرونة، فهى تعنى تطور الحد الأدنى وفقا لمستويات المعيشة وعدم تجميده عند خط معين»، بحسب الجبالى الذى يرى أن الحد الأدنى المناسب للأجور، وفقا لدراساته وحساباته، يجب ألا يقل عن 560 جنيها. سلاح ذو حدين الحد الأدنى للأجور سلاح ذو حدين، كما تكشف دراسة لكاثرين ساجيت، بمنظمة العمل الدولية، صادرة فى عام 2001، بعنوان «هل وضع حد الأدنى للأجور أداة مؤثرة فى خلق فرص عمل مناسب، وتقليل الفقر». فكما توضح الدراسة أنه، خصوصا فى البلاد النامية، وضع حد أدنى للأجور يعنى مزيدا من العراقيل أمام التشغيل، ومن ثم مزيد من البطالة، ولذلك، وفقا للدراسة، الغالبية العظمى من الدول النامية لا تطبق هذا النظام. وتشير الدراسة إلى تجربة بعض الدول التى قامت بتطبيق درجات من الحد الأدنى للأجور، وفقا للقطاع، فعلى سبيل قامت المغرب بتطبيق حد أدنى للأجور أقل فى قيمته فى مجال الزراعة عنه فى مجال الصناعة، لأن الزراعة تضم الطبقة الأكثر فقرا، الأمر الذى أدى إلى مزيد من التشغيل لاحتياج أصحاب الشركات إلى عدد أكبر من العمالة لزيادة الإنتاجية، وفى نفس الوقت لقدرتهم على تحمل الحد الأدنى المفروض عليهم. وفى المكسيك، أدى وضع حد أدنى للأجور إلى تحسين هيكل العاملين فى الدولة حيث كان من شأنه زيادة عدد المشتغلين من الشباب وخفض عدد العاملين من كبار السن. «مع الالتزام بحد أدنى للأجور، تسعى الشركات إلى اختيار العمالة المنتجة وكان هذا من شأنه خفض معدل البطالة من شريحة الشباب، وهى الأجدر بفرص العمل فى الوقت الحالى»، وفقا للدراسة. إلا أن الدراسة قد أشارت أيضا إلى نقطة مهمة، وهى أن رفعه أكثر من اللازم يأتى بثمار عكسية، وهى تقصد بذلك أن الدول التى بالغت فى تحديد قيمة الحد الأدنى للأجر، لم يصبها إلا مزيد من البطالة ومن عدد العاملين فى القطاع غير الرسمى. ولذلك يرى الجبالى أن الحد الأدنى للأجور لا يجب أن يكون أعلى بكثير من متوسط أجور الحكومة حتى لا يؤثر سلبيا على فرص العمل (نتيجة للأعباء المالية) خصوصا أن هذا الحد يخص الدرجة الدنيا من المجتمع «أى 175 ألف موظف فى الدولة، ولكنه ليس من المعقول أيضا أن يظل جامدا على مر السنين على الرغم من ارتفاع معدل التضخم»، كما قال الجبالى مشيرا إلى اقتراح مجلس الأجور بتحديد حد أدنى للزراعة مختلف عنه فى الصناعات الصغيرة وعنه فى الصناعات الكبيرة. إعادة ترتيب الأولويات يحل المعادلة ووضعا فى الاعتبار مبررات وزارة المالية لرفض زيادة العلاوة هذا العام، من تقديراتها لنسب العجز والفرص البديلة لهذا الانفاق، فقد يمثل هذا الحد الأدنى الجديد للأجر ضغطا إضافيا على موازنة الدولة خصوصا إلى جانب المصاريف التى خصصتها لمواجهة الأزمة المالية. يأتى ذلك فى سياق التطور السنوى لنصيب الأجور من موازنة الدولة من حوالى 79 مليون جنيه فى عام 2008 2009 إلى ما يقرب من 86 مليون فى عام 2009 2010. لكن الجبالى يرى أنه من السهل جدا إيجاد حل لهذه المعادلة من خلال تجميع جميع إيرادات الدولة فى وعاء واحد، وإعادة توزيعها وفقا لأولويات الإنفاق العام، وفقا لمبدأ وحدة الموازنة، وعدم البحث عن تخصيص مورد واحد لنفقة واحدة. ويضيف الجبالى: إنه من خلال تطوير الهيئات الاقتصادية، واستغلال المخزون الحكومى بصورة أفضل، تستطيع الدولة الحصول على مليارات إضافية ضائعة من الدخل. وربما سيقلل من هذا الضغط أن المشروع المقترح يقوم على دمج الأجرين الأساسى والمتغير ليصبحا الأساسى، وهو ما يعنى فى حالات كثيرة عدم وجود زيادة فى دخل الموظف، وإنما فقط إعادة تصنيف لهذا الأجر. وهنا يذهب الأزهرى، عضو اتحاد العمال، إلى ما هو أبعد من ذلك قائلا إنه ليس من شأن الموظف أو العامل من أين ستوفر الحكومة هذه المبالغ، وإنما يرى انه كما تساند الحكومة رجال الأعمال والمستثمرين الذين ليسوا بحاجة إلى المساندة، بحسب قوله، فهى عليها أن تساند الموظف الفقير الذى هو بحاجة أكثر منهم. «ليس الحل أن تضغط عليه وتضحى به وتخفض بقيمة الحد الأدنى من 1000 إلى 500 جنيه»، يقول الأزهرى. ماذا عن القطاع الخاص؟ المشروع الجديد يشمل موظفى الجهاز الإدارى للدولة الذين يتجاوز عددهم 5 ملايين شخص، لكنه حتى الآن لا يظهر أن هناك تفكيرا فيما يخص القطاع الخاص، الذى تتراجع فيه فى حالات كثيرة فى المستويات الأدنى أجرا مستويات الأجور بالنسبة للقطاع العام. ويقول أدهم نديم، المدير التنفيذى لمركز تحديث الصناعة، وصاحب شركة النديم للأثاث، إن قانون العمل يعطى مزايا كثيرة للعامل المصرى ويمنع صاحب العمل من فصله، ولذلك فإن مزيدا من المزايا للموظف سيعنى تكبيلا لأصحاب الأعمال بأعباء وقيود إضافية وسيؤثر على التوظيف وعلى الإنتاج. ويشير فخرى عبدالنور، رجل الأعمال، إلى أن «المبالغة فى القيمة من جانب الطرفين، صاحب العمل والعامل، صحية ومطلوبة، لأنها ستؤدى فى النهاية إلى تحديد قيمة مثالية»، رافضا المبالغة فى قيمة الحد الادنى 1200 كما يطالب اتحاد العمال- وإن كان غير راضيا «بالكامل» عن الحد الأدنى التى يتم دراسته حاليا. وهنا يشير عبدالنور إلى أن القطاع الخاص ليس عبارة عن منشآت كبيرة وغنية فقط، بل الغالبية منها منشآت صغيرة ومتوسطة، ولذلك فسيكون عليها عبء توفير هذا الحد الأدنى، ولذلك من أجل حثها على الالتزام به مع الحفاظ على معدل التوظيف يجب أن يكون قريبا من متوسط الأجر الذى تدفعه الحكومة. «فعلى الأقل الحكومة تستطيع أن تتدبر مواردها ولكن كيف يستطيع أن يقوم بذلك صاحب شركة صغيرة؟»، يتساءل عبد النور. ولذلك يلخص عبد النور قوله فى أن «هذه الخطوة كبداية جيدة خصوصا فى وقت الأزمة، مع ضرورة أن يتم مراجعة الحد الأدنى للأجور كل عام وربطها بتطور معدل التضخم». وبدون إلزام من الدولة للقطاع الخاص فيما يتعلق بالحد الأدنى للأجور سيظل من المستبعد، خصوصا فى ظل الأزمة وميل العديد من الشركات لتخفيض العمالة وتقليص الأجور، أن تلتزم من تلقاء نفسها بال500 جنيه كحد أدنى للأجر.