ربما أغرى فراغ كرسى وزارة الثقافة بعض المثقفين بإعادة المطالبة بإلغاء الوزارة وتحويلها إلى صندوق دعم مالى للأنشطة المستقلة على غرار الكثير من دول العالم الغربى، لكن الكرسى الذى لم يزل محتفظا بدفء جلوس الوزير السابق فاروق حسنى عليه لمدة 23 عاما، هو السبب المباشر فى رأى آخرين وراء مركزية عمل الوزارة وشكلية الكثير مما قدمته من أنشطة طوال الأعوام السابقة، بالتالى فإن فكرة الإلغاء نفسها ليست حلا. فكرة إلغاء الوزارة لم تكن وليدة ثورة الشباب لكنها كانت جزءا أساسيا مما تمناه المثقفون المصريون طوال عقود من أن يكون لهم دور طليعيا فى التغيير بالمجتمع المصرى، وهم أنفسهم من اتهموا فاروق حسنى بالدأب فى تدجين كل من عرف باستقلاله ليكن جزءا من منظومة الصمت حيال تدمير أحلام التنوير والتقدم فى مصر. مرة أخرى يعود هذا الجدل بعد استقالة وزير الثقافة الأخير دكتور جابر عصفور من منصبه بعد عشرة أيام فقط خلف فيها فاروق حسنى فى حكومة طوارئ، وظل الكرسى فارغا فى انتظار تشكيل حكومة جديدة. تقول فيروز كراوية باحثة ومطربة شابة تعاملت مع هيئات وزارة الثقافة مرارا فى إحياء حفلات بهيئات الوزارة المختلفة لكن «شكل وزارة الثقافة لم يعد مناسبا لما نحن مقبلون عليه، فأن يظل الوزير (وهو جزء من الحكومة) هو المتحكم فى المناخ الثقافى بما يخدم سياسات الدولة، هو أمر لم يعد مقبولا» «المناخ الجديد لابد أن يواكبه تحرير كل مؤسسات الدولة من البيروقراطية، وانعدام الكفاءة» شددت فيروز التى تجنبت فتح الباب أمام التخوين ضد من سبقوا، فهؤلاء كانوا أبناء مرحلة ولّت وعلينا أن نبتكر ما يناسب جيلنا وعقولنا ويخدم مجتمعنا. وترى فيروز أن هذا الشكل الأنسب هو أن تتحول الوزارة إلى صندوق دعم ثقافى يديره شخصيات مشهود لها بالنزاهة تقسم الموارد المالية بالتساوى على المشروعات الشابة التى تستحق وأن يشرف على المديرين مجالس أمناء يتابعون أداء صناديق الدعم كما فى المؤسسات المستقلة تماما. كذلك ترى فيروز أن من أسباب التبعية المباشرة للدولة واستغلال العمل الثقافى لخدمة سياسات الحكومة هو عجز الكثير من مؤسسات الثقافة الحكومية عن تغطية نفقاتها، وهو ما يضطرها إلى الخضوع للدولة طلبا للمال. يتفق مع هذه الفكرة الفنان التشكيلى محمد عبلة مضيفا أن الوزارة مارست دورا غير دورها طوال الأعوام الماضية، ف«كانت عبارة عن هجين من مجموعة أفكار لم تفلح فى أى منها، فلا هى مركزية تستطيع توزيع مواردها بعدالة، ولا هى داعمة للانشطة المستقلة، وقد اهتمت بأنشطة استعراضية (مؤتمرات ومهرجانات) لم تخدم الثقافة المحلية بشىء إلا القليل». ويبرهن عبلة على هذه التخبط قائلا: «لدينا قصور ومراكز للثقافة فى كل أنحاء الجمهورية لكنها لا تعمل، ولدينا أنشطة مستقلة تستحق الرعاية لم ينظر لها قط». مؤسس مركز الفيوم للفنون يقول إن الأولى بإنتاج النشاط الثقافى هو مؤسسات المجتمع المدنى والأحزاب، ويأتى دور الدولة بعد ذلك فى عرض هذه الأنشطة على المجتمع الدولى، «أما أن تكون الدولة هى المنتجة للثقافة فهذه كارثة كبرى تسببت فى فساد استشرى على مدار عقود بالوزارة، وستكشفه الايام المقبلة، فهناك من تحولوا إلى مليونيرات بفضل أموال الوزارة». غير أن هذا التصور يطرح عدة إشكاليات منها على سبيل المثال أن بعض قطاعات الوزارة تلعب دورا حيويا قد تعجز عنه مؤسسات المجتمع المدنى ورجال الأعمال الداعمون للثقافة، هذا ما أكده الناشر محمد هاشم صاحب دار ميريت قائلا: «فى وزارة الثقافة قطاعات مهمة كهيئة الكتاب والمركز القومى للترجمة والمجلس الأعلى للثقافة، صحيح أن خدماتها كان يشوبها بعض الفساد والمحسوبية، إلا أنه لا يمكن الاستغناء عنها، ويكفى لضمان نزاهة عمل هذه الأجهزة أن يتولاها أشخاص محترمون». يرد عبلة قائلا: «يمكن أن تدار المؤسسات الحيوية عن طريق مؤسسات المجتمع المدنى فقد تطبع هذه الهيئة المهمة 1000 لا يحتاج المجتمع منها كتاب واحد». أما الكاتب الكبير بهاء طاهر فيرفض فكرة إلغاء الوزارة، ويؤكد أهمية استمرارها، قائلا: «نحن فى أمس الحاجة إلى تخطيط مركزى للثقافة بحيث تخدم القطاع الأكبر من الجماهير، فنحن لدينا موارد محدودة فى الثقافة تحتاج إلى تعامل واعٍ وإدارة رشيدة، والمطلوب من الثقافة كثير جدا». ويوضح بهاء طاهر: «المطلوب أن توزع بشكل عادل على كل محافظات مصر وقد يترك للمحافظة أو الادارة المحلية هذه المهمة فى اطار معرفتها بالبيئة المحلية». ويشير إلى أن ترك الإنتاج الثقافى رهنا برأس المال أو المؤسسات المدنية المستقلة قد يضر بالعمل الثقافى فى مصر إذ إن «رأس المال المصرى لا يملك القدر الكافى من الوعى لأن يتكفل بإنتاج الثقافة بشكل كامل، كما هو الحال فى دول الغرب». ويتابع: «إذا شاءت المؤسسات المدنية ورجال الاعمال أن يساهموا تحت إدارة هذا التخطيط المركزى فى حدود احتياج كل منطقة فلما لا يفعلوا؟». لكن استمرار مركزية النشاط الثقافى تثير مخاوف مؤيدى فكرة الغاء وزارة الثقافة من استعادة الفساد والبيروقراطية عافيتهما مرة أخرى، فالكاتب علاء خالد مؤسس مجلة أمكنة المستقلة قال: «خلال 23 عاما صارت الثقافة والفن ليست له أى مصادر دعم إلا وزارة الثقافة، بسبب تركز الخيوط جميعا فى يد الوزارة، كان يمكن أن يترك لمؤسسات المجتمع المدنى والمحافظات فرصة أن تكون مستقلة بعض الشىء فى الإنتاج الثقافى لكن ذلك لم يسمح به أبدا». ويتابع: «إن استمرت الوزارة فى اختزال دورها فى تقديم الاغراءات للمثقفين ستظل حالة التكالب غير المفهومة على الجوائز بما يؤذى العمل الثقافى ويجعل الشاغل الأكبر للوسط الثقافى هى معارك أساسها الجوائز والمناصب داخل الوزارة، فنحن لم نشاهد معارك فكرية طوال الأعوام الماضية بعيدة عن هذا النزاع فى جوهرها». ويرى علاء أن «فكرتنا عن الطريقة التى تدار بها الفاعليات الثقافية لابد أن تتغير وأن تحصل المشاريع التى أثبتت جديتها على دعم ويترك لها المجال للانتشار، لا أن تحارب وتهمل حتى تموت». لكن تظل نقطة الجدل الأكبر بين المؤيدين والمعارضين متوقفة أمام بعض قطاعات وزارة الثقافة الحيوية التى تقدم الكتاب مدعوما كهيئة الكتاب والمركز القومى للترجمة، والتى لا يسهل الاستغناء عنها فى «مجتمع يحتاج إلى إعادة بنائه ثقافيا» على حد تعبير الكاتب علاء الديب، إذ يرى «أن يحافظ على هذه الهيئات وأن يعاد ترتيب باقى الهيئات التى شابها الكثير من الفساد كمؤسسة قصور الثقافة على سبيل المثال». فهذه الهيئات برأى علاء الديب «عبؤها الادارى أكبر من قدرتها على تقديم النشاط، بالتالى فقد يساعد التخلص منها فى التخلص من الكثير من العوائق».