ليس هناك سبب بمفرده وراء الانتفاضات فى مصر وتونس واليمن. فالأسباب سياسية وأيديولوجية، ولايمكن فصلها عن التوترات الدينية والعرقية والاثنية والطائفية والقبلية فى البلدان المذكورة. ويتضح من تصريحات العديد من المتظاهرين أنهم غاضبون من القمع، والفساد، وانعدام العدالة الأساسية. كما يتضح من آخرين أنهم يرون عالما من دون مستقبل واضح، ومن دون أى فرص أو مكانة شخصية، ولا مقابل للتعليم أو الاستعداد للعمل، ولا توجد غالبا احتمالات واضحة للزواج، وهو مقياس للتحقق الاجتماعى فى العالم العربى أكثر مما فى الغرب. تحذير من استطلاعات الرأى فى مصر وتونس يقال إنه من المهم بحث الأسباب المادية القديمة للاحتجاج. ويظهر تقرير جديد أصدرته مؤسسة جالوب أن نسبة من يعتقدون أن أوضاعهم ميسورة فى مصر، انخفضت بنسبة 18 نقطة مئوية منذ 2005. وفى تونس، حيث أطاحت المظاهرات الحاشدة بحكومة البلاد الشهر الماضى، انخفضت نسبة من تصنفهم جالوب بأن أوضاعهم ميسورة عشر نقاط منذ 2008. ويورد تحليل جالوب لهذه النتائج الملاحظات التالية: تصنف جالوب الاستجابات فى أنحاء العالم إلى «ميسورة»، «تعانى» و«تكافح» بناء على الدرجات التى يمنحونها لحياتهم الحالية والمقبلة على مؤشر من خطوات مرقمة من درجة الصفر حتى عشرة. ويكشف تراجع النسبة المئوية لأولئك المصريين والتونسيين الذين يرون حياتهم جيدة بما يكفى لاعتبارها ميسورة، عن أن تقييم هؤلاء السكان إجمالا لحياتهم فى السنوات القليلة الماضية سلبيا. وفى مصر، تراجعت جميع فئات الدخل بشكل كبير منذ 2005، ولم يشهد اتجاها إيجابيا منذ 2009 سوى أغنى 20 فى المائة من السكان. وفى تونس، تراجع مستوى معيشة جميع فئات الدخل منذ 2008 بمعدلات مثيلة. تحدى الشباب وهذه الاستطلاعات أحد الأسباب التى تدعو للبحث فى الاتجاهات الكلاسيكية للاقتصاد الكلى، والتركيز على نطاق كامل من الأسباب المادية وراء الانتفاضات فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. معدل نمو السكان منخفض، ولكن التضخم السكانى الهائل قائم بالفعل. و«التحدى الديموجرافى» نشأ عن أن أعدادا كبيرة من الرجال والنساء سوف تدخل سوق العمل وتحتاج وظائف حقيقية لعدة عقود قادمة. وتتجاوز تطلعات الشباب مجرد الوظيفة والدخل، حيث يتحدد شكل هذه التطلعات بكون هذه الوظائف حقيقية ومنتجة، والمدة التى سيواجهون فيها البطالة المباشرة والمقنعة، والتأخر فى الحصول على وظائف حقيقية. كما تقل أهمية الأمية ومستوى التعليم كثيرا إذا كانت نوعية الوظائف، والفترة اللازمة للحصول على عمل، والقدرة على تغيير القيم بحيث لا يكون للبحث عن وظائف فى القطاع الخاص نفس الأولوية التى للعمل فى القطاع العام أو أكثر منها. القدرة على الزواج ودور المرأة حتى الآن، يقود الرجال المظاهرات والانتفاضات على الرغم من وجود أعداد كبيرة من النساء ضمن الحشود. ومع ذلك، تبقى الحقيقة أن كلا من الرجال والنساء فى مثل هذه المجتمعات المحافظة يواجه مشكلة مشتركة. وكلاهما يحتاج إلى المال والمكانة الاجتماعية حتى يتزوج. والمشكلة ليست مجرد الحصول على وظائف أو مساواة بين الجنسين، وإنما قدرة كل من الرجل والمرأة على الزواج، وتكوين بيت وأسرة. ومع ذلك، تحتاج اقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى تحقيق أقصى استفادة من الفتيات بنفس قدر الاستفادة من الشباب، خاصة وأن عدد الفتيات يزيد على عدد الشباب فى مدارس وجامعات بعض البلدان. تغيير التحليل الاقتصادى والاقتصاد القياسى: كما أظهرت مصر وتونس بوضوح وجود حاجة ملحة لتغيير طريقة الدول والاقتصادات فى تحليل اتجاهات الاقتصاد. معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى ونصيب الفرد من الدخل لا يقدمان مقياسا كافيا للاستقرار، لأن أى اقتصاد وأى حكم خذل شباب الأمة والمواطنين الفقراء، يمكنه إظهار نمو مضطرد فى الناتج المحلى بينما هو يتجه نحو عدم الاستقرار. المقاييس التقليدية لمستويات الفقر ليست هى المؤشرات الوحيدة لأسباب الاضطراب. والقضية ليست من الذى يكسب دولارا أو دولارين فى اليوم. وإنما مستوى الدخل الذى يفى بالاحتياجات الاجتماعية. يعتبر الفارق فى الدخل مقياسا للاضطراب المتوقع، خاصة إذا زاد باضطراد بمرور الوقت، نتيجة للامتيازات والفساد، بينما تعانى قطاعات كبيرة من السكان. الوصول إلى موارد المياه واستخدامها من القضايا الرئيسية. ومن المهم للغاية تحديد كفاءة استخدام المياه بالنسبة إلى المعروض والتكلفة، وما إذا كان يتم تسعيرها بشكل مناسب، والاعتماد على إمدادات المياه الطبيعية مقابل الإمدادات المتجددة، والمشكلات فى تقاسم الإمدادات الدولية. وتؤثر هذه القضايا نفسها على الطاقة الكهربائية، والإسكان، وخدمات الصرف الصحى، والتخلص من القمامة، وصيانة البنية التحتية الحضرية والريفية، والحصول على الرعاية الصحية، والحصول على التعليم. وتمثل إمدادات وأسعار المواد الغذائية مشكلات خطيرة لدى الشرائح الفقيرة من السكان، كما انعكست مشكلات السلع والمعروض على أسعار الغذاء. وتزيد العوامل الديموجرافية وارتفاع التوقعات من تأثير ارتفاع الأسعار شعبيا. وتحتاج اتجاهات استخدامات وأسعار البترول وغيره من مصادر الطاقة المزيد من البحث. جودة إدارة الحكم: وتعتبر مصر وتونس أيضا مثالين ينبهان إلى أن المطلوب إجراء الكثير من أجل قياس جودة وفعالية الحكم. وربما كان طبيعيا التركيز على التغيير السياسى والقيادة السياسية فى وقت الانتفاضة، ولكن هذه وسائل من أجل غاية هى: أمن كفء، وخدمات حكومية، وعدل، وحماية الحقوق الإنسانية الرئيسية، ونظام قضائى نزيه. يمثل الفساد قضية رئيسية، سواء كانت تكلفة الفساد تعتبر مقبولة، ومجرد جزء من الاقتصاد الأسود أو الرمادى، أو كانت أكبر كثيرا من أن يتم التسامح معها. تعتبر شفافية الموازنات الحكومية والإنفاق الحكومى وإمكانية محاسبتها مقياسا رئيسيا لكل من الفساد والقدرة على إدارة الأموال بكفاءة فعليا. يمثل انعدام الشفافية، والمساءلة، وشروط التحقق والتدابير الفعالة فى استخدام المعونة الأجنبية مقياسا آخر لأسباب عدم الاستقرار. تمثل المساواة فى الترقية والتوظيف محكا رئيسيا أيضا. فمازال الحصول على وظائف حكومية صعبا فى معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويؤدى القمع، وانتهاكات الشرطة والمحاكم، وسوء استخدام حالة الاحتجاز إلى التأثير على الاستقرار وغالبا ما يخلق المزيد من بذور عدم الاستقرار، بأكثر مما يمثل تأمينا للنظام. ربما لا يكون لدى سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دائما نفس مطالب حقوق الإنسان وحكم القانون التى يراها الغرب «عالمية». تعتبر جودة الخدمات الحكومية عاملا رئيسيا. وبعض حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تمثل كابوسا من البطء، والازدواجية، والتردد، والمطالبة بالرشاوى، والابتزاز وسرقة الممتلكات، وما إلى ذلك. وتعتبر مصر مثالا كلاسيكيا على ذلك. وترتبط جميع هذه المصادر للتوتر فى عديد من الدول بما تقدمه أو تلغيه أى حكومة من دعم. وغالبا ما يكون الدعم أداة حاسمة فى التعامل مع قضايا مثل ارتفاع أسعار الغذاء والوقود، وغياب الإسكان، والحصول على الكهرباء والماء. ويمكن للتضخم والمؤسسات الادخارية والمصرفية غير الخاضعة للرقابة أن يكلف قطاعات كبيرة من السكان مدخراتهم، وقدرتهم على الزواج، وشراء منزل، وخلق استثمار فضلا عن أنه يجعل معاشات التقاعد بلا معنى تقريبا. ويمكن أن يكون الإصلاح الفاشل مساويا للقمع، ويعتبر قياس سرعة وحقيقة الإصلاحات الرئيسية مؤشرا مهما آخر لقياس الاستقرار وعدم الاستقرار. وهذه جميعها مجالات تحتاج إلى مؤشرات عملية أفضل. فالاستقرار لا يعتمد على نظرية سياسية، وإنما يعتمد على ممارسة حكومية فعلية.