أخيرا.. عثرت على هذه الأوراق الغالية التى ضاعت منى طوال عقدين من الزمان. غلاوتها ترجع للمحبة والاحترام اللذين يتمتع بهما صاحب الأوراق، مخرجنا الكبير، يوسف شاهين، فعقب عودته من باريس، بعد إخراجه لمسرحية «كاليجولا» لألبير كامى، على خشبة مسرح الكوميدى فرانسيز، التقيته، ولحسن الحظ كان مزاجه معتدلا، منتشيا بنجاح عرضه المسرحى.. قبل أن أطرح عليه أية أسئلة، أخذ يتحدث عن التغييرات والتبديلات التى أدخلها على نص ألبير كامى كى يتوافق مع رؤيته لذلك الطاغية المجنون، ولأنى أعرف مدى استجابة يوسف شاهين للمشاغبات الفكرية، قلت له «أنت من المهتمين إن لم تكن من المنبهرين بالمجانين وأنصاف المجانين».. التمعت عيناه بفكرة لمعت فى ذهنه، فقال، بطريقته الحميمة، الحماسية: ولد.. عارف قناوى، بطل «باب الحديد»، لو أنه كان صاحب سلطة مطلقة ومال وفير، لأصبح «كاليجولا» على نحو ما. وجدت أن الحديث عن المجانين و«كاليجولا» سيستغرقنا، قاطعته: أريد التحاور حول الإسكندرية.. كعادته، انتقل من كرسى المكتب إلى مقعد فى مواجهتى، فهو، غالبا، لا يستقر فى مكان، حركته لا تتوقف، شأنها شأن أفكاره التى لا تناسب بقدر ما تتدفق. أجاب: إنه الموضوع الذى من الممكن أن يحل مكان «كاليجولا»، بل أعتبره أهم من أى موضوع آخر. ● لماذا؟ لأن الإسكندرية، بالنسبة لى، ليست مكانا عزيزا أو زمنا سعيدا فقط.. ولكنها طوفان من المشاعر والذكريات والأفكار. ● فى المشهد الافتتاحى لفيلم «إسكندرية كمان وكمان» لقطة طويلة لك.. تنظر فيها بشجن، من شرفة حجرتك إلى البحر.. إن ملامحك، فى هذه اللقطة، تكتسى بحزن ما. أليس كذلك؟ أحتاج إلى مشاهدة الفيلم مرة أخرى لأحلل معنى نظرتى.. فى هذه اللقطة بالتحديد، تركت نفسى على حريتها، لم أتعمد التعبير الصارم عن انفعال معين.. هذه النظر ة العفوية هى التى أنظر بها عادة إلى الإسكندرية، ربما بها بعض الأسى، ولكنها، فى تقديرى، تمتزج بالإعجاب، ولا تخلو من الأمنيات. ● هل ترجع هذه المشاعر إلى أسباب موضوعية، تتعلق بالمدينة، كتاريخ وحاضر، أم ذاتية، ترتبط بذكرياتك كابن من أبنائها، ولد وعاش فيها شطرا طويلا من حياته؟ الاثنان. وأحب بداية التأكيد أنها لا تثير فى نفسى إحساسا «رومانسيا»، فهى، بتاريخها، تبدو لى أقرب إلى «التراجيديا». ● التراجيديا؟! نعم، إنها بموقعها الجغرافى العبقرى، الذى اختاره بذكاء «الإسكندر»، تذكرنى بجلال التراجيديا وخاصة أن بها بعض الثوابت القوية، لا تتغير بمرور الزمن. أقصد البحر طبعا، فهو، مثل الجبل، لا يتزعزع أو يغادر موقعه، مع فارق جوهرى، هى أن الجبل، غالبا، محدود الفائدة. لكن البحر. فضلا عن عطاياه السخية، يثير فى النفس عشرات الاسئلة لمعرفة أسراره، واللقاء بالآخر الذى يعيش على ضفافه البعيدة. ظلت الإسكندرية، طول تسعة قرون، عاصمة لمصر. كانت بوتقة انصهرت فيها ثقافات الدنيا، وحظيت مكتبتها الشهيرة، التى ضمت مئات الآلاف من المجلدات، بسمعة عالمية، ووصل عدد سكانها إلى ما يزيد على نصف المليون نسمة. لكنها، وكما يحدث فى المآسى، تعرضت لقدر تراجيدى بدد ثروتها الثقافية فاحترقت مكتبتها، أو قل مكتباتها، لقد كان بها أكثر من مكتبة، ونهبت مراجعها، وامتد الخراب إلى عمائرها، وفتك الغزاة بسكانها، حتى لم يعد عددهم، فى نهاية القرن ال«18»، يتجاوز العدة آلاف نسمة.. تصور. إنها تراجيديا تدفع المرء موضوعيا إلى التفكير والتأمل. إلا أنها، بفضل البحر، وسواعد المصريين، نهضت من جديد، وأصبحت أهم ميناء فى مصر، ولكنها الآن لا تحظى بالاهتمام الذى يليق بها. ليس من الناحية المادية وحسب، بل من الناحية الروحية أيضا، فالتطرف، والانغلاق العقلى، وسيطرة الفكرة الواحدة، الجامدة، المتخلفة، أمست جدارا فظيعا فى وجه الرياح الثقافية الوافدة عبر البحر.. أنا لا أطالب بقبول كل ما يأتى على نحو سلبى، ولكنى أفكر فى ضرورة معرفته، والتفاعل معه، فالحياة الثقافية، بلا حوار أو أخذ وعطاء، تغدو نوعا من الموت.. ربما هذا هو السبب فى مسحة الأسى التى تغلف نظرتى فى المشهد الافتتاحى ل«إسكندرية كمان.. وكان». أما من الناحية الشخصية، فإن إدراكى للحياة يرتبط بتلك المدينة «البحرية» التى نشأت وتعلمت وعملت بها. كل مكان، على الشاطئ، يرتبط فى ذهنى ووجدانى، بذكرى معينة، فهنا تعلمت العوم، وهناك كدت أغرق، وفى هذا الشارع تشاجرت وتقطعت ملابسى.. وفى الميناء، خلال الحرب العالمية الثانية، عملت، وحصلت على أول أجر فى حياتى. كنت أقوم بعد صناديق البضاعة التى يستوردها والد أحد أصدقائى، وهو الرجل الذى استوحيته وأنا أرسم شخصية فريد شوقى فى «إسكندرية.. ليه». يمكن أن تقول إنى شخصية «بحرية». ● ما ملامح الشخصية «البحرية»؟ إنها تكتسب من البحر الكثير من الطباع. إنها، غالبا، منفتحة على الآخرين، فيما عدا فترات الانكفاء على الذات. تدرك أن الخير سيأتى حتما، من البحر، حتى إن طالت فترة الانتظار.. قد يكون مظهرها هادئا، ولكنها ذات طبيعة متقلبة، وأحيانا عاصفة. لقد جسدها وليم شكسبير فى «عطيل». ● هل ظهرت هذه السمات فى شخصياتك قبل «إسكندرية ليه»؟ فى الكثير من أفلامى، تطالعك شخصية تنتابها الرغبة فى السفر، حتى لو كانت أقصى الجنوب: «ابن النيل»، شكرى سرحان، شغوف بالاتجاه شمالا.. عمر الشريف، افتتح به «صراع فى الميناء» وهو عائد من السفر ويتهيأ للسفرة مرة أخرى. الطفل النوبى اللطيف فى «العصفور»، بإرادته الصلبة، يصل إلى العاصمة.. محمود أو عزت العلايلى، فى «الاختيار»، هو بحار لا يتوقف عن الذهاب والعودة. فى «اليوم السادس»، وعبر رحلة طويلة فى مياه النيل، تحاول الأم أن تجعل عيون ابنها العليل أن تكتحل برؤية البحر كى يشفى. إن «جنون السفر» جزء من شخصيتى، فأنا أرى أن السفر حياة، بل وسيلة لمعرفة الذات، فبين الغرباء يمكنك أن تعرف من أنت. وإذا حرمتنى من السفر فكأنك حرمتنى من الحياة، ومنعتنى من معرفة ذاتى. معنى المكان ● ألاحظ أن المكان، فى أفلامك، يتجاوز دوره كمسرح للأحداث أو خلفية للأبطال. إن له قيمة روحية إن صح التعبير. لكل مكان شخصيته، إشعاعه، نبضاته الخاصة، ولعل أقواها وأحبها إلى نفسى كل ما يوازى الميناء. محطة القطار التى ألهبت خيال شكرى سرحان فى «ابن النيل»، وبعد «صراع فى الميناء» ثمة «باب الحديد» ليس قلب القاهرة وحسب، بل قلب الوطن كله. هنا تتجمع عربات المسافرين، وتبتعد إلى بقية أجزاء الجسم. أنا من عشاق الموانئ، ففيها كل شىء. الوداع واللقاء، الرحيل والعودة، الحلم والواقع، الكابوس والحقيقة، البيع والشراء، الطابع المحلى والملامح «الكوزمو بليتانية». ● قبل أن نتحدث عن أفلامك «الذانية»، كيف ترى الإسكندرية، كما قدمتها الأفلام المصرية؟ بدا يوسف شاهين غاضبا من السؤال، وجدير بالذكر أن غضبه من النوع اللحظى، الذى سرعان ما يتحول إلى انفعال آخر، فضلا عن أنه عذب المشاكسة، لذا قلت له: لا داعى للإجابة عن هذا السؤال إذا كنت تخشى موقف الآخرين.. اندفع قائلا: باستنكاء: أنا، أنا لا أخشى شيئا ولا أخاف من أحد. كل ما فى الأمر أنى أرى أن الإجابة عن هذا السؤال من مسئولية النقاد.. ومع هذا اسمع: فى معظم الأفلام، تظهر الإسكندرية كمنظر سياحى. الشاطئ حيث يلتقى الحبيب بالحبيبة عند الغروب. فتيات جميلات يرتدين المايوهات، يضعن على عيونهم نظارات شمس سوداء. المرح واللعب ومطرب يغنى أغنية أو أكثر، وأحيانا يستخدم الموج الذى يصدم الصخرة كرمز لفقدان فتاة «أعز ما تملك».. ● فى ثلاثيتك الذاتية، تطالعنا طفلا فى «إسكندرية ليه»، ثم شابا فى «حدوتة مصرية»، ثم كهلا فى «إسكندرية كمان.. وكمان».. ما الفارق العميق بين هذه الأفلام، والأفلام التى حققتها من قبل؟ فى الأفلام السابقة كنت أهتم بإبداء وجهة نظرى. أن أقول رأيا.. ولكن، عندما وقفت على مشارف الموت، أثناء فتح قلبى فى عملية جراحية كبيرة، قررت إذا كتب لى البقاء على قيد الحياة أن أقول الحقيقة.. حقيقتى، وحقيقة زمنى، وأن أكون صادقا إلى أبعد الحدود، وأن أصفى حسابى، بجدية قد تبلغ حد القسوة، مع نفسى.. وبالتالى، يصبح من حقى أن أصفى حسابى، بلا خوف أو حرج، مع عائلتى، مجتمعى، مدينتى، بلدى، والعالم كله.. ولعلك تلاحظ أنى لم أقدم نفسى، فى الأفلام الثلاثة، كبطل نزيه، يخلو من العيوب، أو كرجل شجاع، جذاب، يستقطب إعجاب الجميع. فإذا كنت فى «إسكندرية ليه» جسَّدت، بلا تردد، أول فشل كبير لى، فى مشهد انهيار العرض المسرحى الخائب، الذى أخرجته فى «كلية فيكتوريا»، فإنى فى «إسكندرية كمان.. وكمان»، اكتشفت، واعترفت، بمدى «ديكتاتوريتى»، بينما أنا شديد الإيمان بالديمقراطية. ● الإسكندرية «1942»، فى «إسكندرية ليه» تتمتع بدفء خاص، على العكس من إسكندرية «1990»، ذات الوجه المرتبك فى «إسكندرية كمان.. وكمان».. هل السبب يرجع لتقدمك فى العمر. لا، لا، أنا ما زلت شابا، وسأظل شابا وعلى طريقته المترعة باللطف والحيوية، لم تفته المقارنة بين ملابسى الثقيلة، وقميصه النصف كم إسكندرية الأربعينيات مدينة متدفقة بالحياة والحيوية، وهى عندى أفضل من إسكندرية التسعينيات التى تبدو لى ساكنة، بطيئة، خاملة. لكن رحلة بطل «إسكندرية ليه» تنتهى بالفشل، شأنه فى هذا شأن معظم أبطالك، فبعد أن يعبر البحر، والمحيط، يصل إلى تمثال الحرية وقد اتخذ شكل عجوز شريرة، تضحك بمجون، وثمة حاخامات يهود، يقرأون الأوردة عند النصب.. ومن قبل، باءت رحلة «ابن النيل» إلى القاهرة بالفشل. ومن بعد، يموت الطفل المريض فى «اليوم السادس» قبل أن يصل إلى مياه البحر.. هل يعنى هذا أنك مع السفر، وضده، فى ذات الوقت. أنا مع السفر ولكن ضد الرحيل أو ضد «الهجرة» إن شئت الدقة. أنا مع معرفة الآخر، ولكن ضد الانبهارية. أحب الذهاب، وأعشق العودة.. أما عن رحلات أبطالى الفاشلة فإنها فى بعد من أبعادها تؤكد أن الاحتجاج على الواقع، يفتح الأفق نحو تغييره، وليس عن طريق تركه والابتعاد عنه. ● هل تحب أهالى الشمال أكثر من أهالى الجنوب؟ لا.. لا إطلاقا، الجنوب عندى هو الرسوخ والأصالة.. عملت فى الصعيد، أحببت ناسه بعمق وصدق.. ألا تذكر يحيى شاهين فى «ابن النيل»، نبله وقوته وتماسكه.. كذلك عمر الشريف ووالده عبدالوارث عسر فى «صراع فى الوادى»، بما يحملانه من طاقة روحية وضياء داخلى.. من ذا الذى يستطيع ألا يحب ويحترم صبر الجنوبى وإصراره على البقاء فى «الأرض»؟.. الجنوبى شديد النقاء، وربما أكثر تفانيا.. والشمالى أبعد طموحا، وأوسع أفقا. ● ماذا ترى فى المستقبل، بالنسبة للإسكندرية، ومصر، والمنطقة العربية؟ الآن، القاهرة هى المعيار. ولا تزال الإسكندرية تعطى بعض الإشارات والدلالات. أحب أن أكون متفائلا، ولكن سأكون كاذبا لو قلت إنى متفائل.. أرى المتاعب قادمة. البطالة والفقر يزدادان حضورا، ومعهما ينتشر التخلف الفكرى.. نحن جزء من العالم. ومع انتشار مسألة «النظام العالمى الجديد» يزداد توجسا، فأنا أكره تماما.. عشت طوال عمرى، وسأظل، مؤمنا بالتعددية، فى الأفكار، والأحلام، والنظم وضد «الأبوية» بكل أشكالها، وهذا ما عبرت عنه فى أفلامى.. فماذا أقول وأنا أرى أن ثمة «بابا» واحدا يحكم العالم، و«بابا» صغيرا لكل بلد فى منطقتنا العربية. «عدة ساعات قضيتها مع شاهين، المتمتع بحيوية دافقة، بينما الوهن يدب فى قدراتى.. سألته وأنا ألملم أوراقى». ● على المستوى الشخصى، ما الذى تتمناه فى هذه اللحظة؟ أن آكل شيئا من السمك والقواقع فى مطعم بأحد الموانئ.